Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
28 août 2018 2 28 /08 /août /2018 22:57

التوجهات الدينية القيمية والسياسية لدى المغاربة

تحليل بيانات استطلاع للرأي أجري عام 2007

أحمد أغبال

 

تتحدد اتجاهات الأفراد واختياراتهم القيمية وتوجهاتهم الدينية والسياسية بالعديد من العوامل والمتغيرات التي لها علاقة بالجنس والسن والمستوى الدراسي والدخل والانتماء الجغرافي وما إلى ذلك من العوامل التي باتت معروفة في أدبيات العلوم الإنسانية والاجتماعية. ولكن العلاقات بين هذه العوامل والمتغيرات قد تختلف باختلاف السياقات التي توجد فيها. تنتظم هذه العوامل داخل سياقها لتأخذ شكل نسق متدرج يتألف من عدة مراتب يؤثر بعضها في بعض ويحدد بعضها بعضا. يرتكز هذا النسق في العمق على مجموعة من المصادرات الضمنية الأساسية التي تتحكم في الاختيارات القيمية للأفراد وتحدد بالتالي توجهاتهم السياسية وسلوكاتهم واتجاهاتهم نحو القضايا المطروحة في محيطهم. وهكذا، فإن تصنيف الأفراد حسب معتقداتهم وتوجهاتهم الدينية واختياراتهم القيمية واتجاهاتهم ومواقفهم يوفر أرضية لرسم حدود الممكنات في الحقل السياسي، ويساعد بالتالي على فهم العلاقة بين السياسي والديني، وبيان كيفية توزيع الأفراد على الخريطة السياسية الموجودة بشكل ضمني أو صريح في المجتمع المدني، والتعرف على خصائص الهويات السياسية لمختلف الفئات.

ولتحقيق هذا الهدف كان لابد من اللجوء إلى أسلوب التحليل العاملي على طريقة المكونات الأساسية لبيان الكيفية التي تنتظم بها الأجوبة وتتوزع المواقف والاتجاهات من أجل استنباط المبادئ والمصادرات الضمنية التي تقف خلفها وتجعل الأفراد ينتظمون ضمن فئات ذات دلالة اجتماعية وسياسية.

نتائج التحليل العاملي على طريقة المكونات الأساسية والتدوير المتعامد

 

المكونات

1

2

3

4

5

  1. نمط التنشئة الاجتماعية الذي يقوم على قيم التسامح والإقناع
  2. التسامح الديني
  3. الميل إلى اتخاذ موقف إيجابي من مسألة المرأة
  4. نمط التنشئة الاجتماعية الذي يقوم على قيم الطاعة والعقاب
  5. الميل إلى اتخاذ موقف إيجابي من مسألة الديمقراطية
  6. نظام سياسي قوي تتخذ فيه القرارات دون اعتبار لنتائج الانتخابات
  7. نظام برلماني ديمقراطي
  8. نظام حكم تكون فيه السلطة بيد رجال الدين
  9. نظام حكم تقنقراطي تكون فيه السلطة بيد  الخبراء
  10. نظام يتمحور حول رأس الدولة
  11. الثقة في المؤسسات (الحكومة، البرلمان، الشرطة، الإعلام..)
  12. الاعتقاد بأن القوى الأجنبية تشكل عائقا أمام الإصلاح
  13. الميل إلى تبرير الإرهاب

81.

68.

75.

43.-

 

 

 

 

64.

72.-

82

46.-

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

82

78

 

 

 

39.

 

 

 

45.

80

52

 

 

 

 

 

 

 

 

 

61

87

نسبة التباين المفسر

21%

12%

11%

9%

8%

مجموع التباين المفسر

61 .%

  

كشف التحليل العاملي عن خمسة عوامل تستوعب في مجموعها ما نسبته 61.% من التباينات، ويفسر العامل الأول وحده ثلث التباين الكلي (21.%)، ويجمع بين أربع متغيرات أساسية(*) يحتل فيها الميل إلى التنشئة الاجتماعية التي تقوم على أساس قيم التسامح والإقناع مكانة الصدارة باعتباره أقوى المتغيرات ارتباطا بالمكون الأساسي الأول (0.81)؛ يليه متغير الاتجاه المؤيد لحقوق المرأة وحريتها، من حيث أن تشبعه بالعامل الأول هو 0.75؛ ويأتي متغير التسامح الديني في المرتبة الثالثة (0.68)، يليه متغير نمط التنشئة الاجتماعية التي تقوم على أساس قيم الطاعة والعقاب ولكن باتجاه معاكس (0.43-). وجاء المكون الأساسي الثاني في شكل توليفة تجمع بين أربع متغيرات تتمحور حول الميل إلى تفضيل النظام البرلماني الديمقراطي الذي بلغ مقدار تشبعه بالعامل الثاني 0.82، يليه متغير النظام السياسي الذي تتخذ فيه القرارات دون اعتبار لنتائج الانتخابات، ولكن باتجاه معاكس (0.72-)، ويأتي الاتجاه الإيجابي نحو الديمقراطية في المرتبة الثالثة بتشبع قدره 0.64، ويرتبط المكون الأساسي الثاني بالموقف من النظام السياسي الذي تكون فيه السلطة بيد رجال الدين، ولكن على نحو عكسي (0.46-). ويفسر العامل الثاني ما نسبته 12.% من هيكل التباينات الكلي.

ويجمع المكون الأساسي الثالث، الذي يفسر 11.% من مجموع التباينات، بين متغيرين اثنين وهما: الاعتقاد بأن القوى الأجنبية تشكل عائقا أمام الإصلاح في المغرب والميل إلى تبرير الإرهاب، وقد بلغ مقدار تشبعهما بالعامل الذي ينتظمان ضمنه على التوالي 0.82 و 0.78. ويتألف العامل الرابع من أربع متغيرات تفسر ما قدره 9.% من مجموع التباينات، يحتل فيها الميل إلى تفضيل نظام الحكم التقنقراطي مكانة الصدارة باعتباره أقوى المتغيرات ارتباطا بالعامل الرابع، حيث بلغ تشبعه به 0.80، يليه متغير الميل إلى تفضيل نظام الحكم الذي يتمحور حول رأس الدولة (0.52)، ثم متغير نظام الحكم الذي تكون فيه السلطة بيد رجال الدين؛ ويأتي متغير نمط التنشئة الاجتماعية الذي يقوم على أساس قيم الطاعة والعقاب في الرتبة الأخيرة بتشبع قدره 0.39. ويفسر العامل الخامس 8.% من هيكل التباينات الكلي، ويجمع بين متغيرين اثنين وهما: الثقة في المؤسسات (الحكومة، البرلمان، الشرطة، الإعلام)، وبلغ تشبعه بالمكون الأساسي الخامس 0.87، ونظام الحكم الذي يتمحور حول رأس الدولة (0.61).

فما هي الخاصية المشتركة التي تجمع بين المتغيرات التي تندرج ضمن كل مكون من المكونات الأساسية الخمس؟ من الواضح، فيما يتعلق بالمكون الأساسي الأول، أن الخاصية المشتركة بين متغيراته تكمن في كون هذه المتغيرات تحيل جميعها على ذهنية تميل إلى الانفتاح أكثر على قيم العصر أو قيم الحداثة من جهة، وإلى النفور من قيم الطاعة والعقاب التي تعتبر من المقومات الأساسية للمنظومات القيمية التقليدية من جهة أخرى. يبدو أن هناك فئة في المجتمع بدأت تستبطن قيم الحداثة، وتميل ذهنيتها بالتالي إلى أن تتخذ طابعا دنيويا زمنيا sécularisation de la mentalité. ولكن الميل إلى تشكل هذه الذهنية لم يرافقه تشكل وعي سياسي واضح ينسجم مع توجهها الثقافي.

وفيما يتعلق بالمكون الأساسي الثاني فإن ما يجمع بين متغيراته هو دلالتها السياسية التي يحكمها المنطق الثنائي القيم في مجملها، والذي هو منطق السلب والإيجاب: يدل هذا العامل، بحكم الخاصية السياسية المشتركة بين جميع متغيراته، على وجود فئة في المجتمع تميل إلى اتخاذ موقف إيجابي من الديمقراطية وإلى مناهضة الأنظمة الشمولية، وتميل في نفس الوقت إلى إظهار العداء للإسلام السياسي. وما يميز هذه الفئة أيضا هو عدم قدرتها على الإفصاح عن العناصر الثقافية التي تنسجم مع توجهاتها السياسية، بل إن منطقها الثنائي القيم يدل على أنها لم تتمكن من استبطان قيم هذه الثقافة.

 وأما العامل الثالث فإنه يجمع بين متغيرين يحيلان معا إلى وجود موقف عدائي من الغرب، ويكشف عن وجود فئة في المجتمع يتحدد موقفها السياسي من خلال مناصبة العداء للقوى الغربية التي تحملها مسؤولية فشل محاولات الإصلاح في البلاد، ولا تمانع بالتالي في التصدي لها بكل الوسائل. يبدو وكأن المصادرة الضمنية الأساسية التي تقف خلف موقفها من الغرب تتمثل في ذلك المبدأ التقليدي الذي يقسم العالم إلى "دار الإسلام" و"دار الحرب". ولكن هذا الموقف الجهادي، على ما يبدو، لم يعد يؤدي غير وظيفة نفسية تتمثل في بعث مشاعر الاعتزاز في النفس، وإن كان من غير المستبعد أن تتسبب تفاعلاته النفسية في بعض التوترات من حين لآخر.

ويتألف المكون الرابع من أربع متغيرات يجمع بينها تصور سياسي يستند إلى القيم التقليدية التي تتمحور حول مبدأ الطاعة والعقاب، ولا يأخذ من العصر إلا ما يحتاج إليه في مجال الخبرة التقنية. إن طبيعة القيم التي استبطنتها الفئة التي يمثلها العامل الرابع تجعلها على الطرف النقيض من الفئة الأولى ثقافيا بالخصوص ومن الفئة الثانية سياسيا بالخصوص. وبحكم طبيعة ثقافتها التقليدية ونزعتها التقنوية فإن نظامها السياسي المفضل هو نظام تقنقراطي- تيوقراطي-لاهوتي. وهي وإن كانت لا تعبر صراحة عن معاداتها للديمقراطية مثلما تفعل الفئة الثانية التي تجاهر بعدائها للإسلام السياسي، فإن ثقافتها السياسية لا تنسجم مع قيم الثقافة الديمقراطية. ولعل ذلك هو ما يجعلها تميل إلى أسلوب المداهنة في تعاملها مع الآخر.

ويجمع العامل الخامس بين متغيرين اثنين يحيلان معا إلى الرضا عن المؤسسات والنظم الموجودة. يؤشر هذا العامل على وجود فئة في المجتمع تحرص على العيش في انسجام مع محيطها. لا مكان في وعيها للنماذج المثلى أو لما ينبغي أن يكون، فالواقع الحقيقي بالنسبة إليها هو الموجود، والموجود هو الحقيقي.

 

 

(*) تم إسقاط المتغيرات التي لا يتجاوز تشبعها بالمكونات الأساسية 0.30

Partager cet article
Repost0
25 mars 2017 6 25 /03 /mars /2017 13:43

من روائع الشاعرة الأمازيغية مريريدة نايت عتيق

(دونها روني أولوج باللغة الفرنسية في أواخر العشرينيات من القرن العشرين)

المشبك

ترجمة أحمد أغبال

 

جدتي.. يا جدتي !

ظل يسكن عقلي مذ رحل

وغدوت أراه في كل محل

هديته لي يومذاك

مشبك فضي جميل

عندما أضع الحايك أنيقا على كتفيّ

عندما أمسك بالمشبك هدبته إلى نهديّ

وعندما أخلعه ليلا لأغفو

لا أرى المشبك حينئذ بل أراه

بنيتي

تخلصي من المشبك تنسين خياله

وتنسين أوجاع القلب وعذابه

جدتي

هجرت المشبك منذ أيام خوال

وَخَلَّفَ في معصمي جرحا بلا شفاء واندمال

عيناي على ندبه المحمر دوما

عند الغسل

عند الغزل

وعند الشراب

وإليه دوما تنزع أفكاري

بنيتي،

لعل الرب يداوي عذابك

ليس الجرح في المعصم بل في فؤادك.

 

 

 

 

أنشودة المغزل

ترجمة أحمد أغبال

در، در يا مغزلي

يا مغزلي المصقول من العرعار

در بأسرع ما يكون

در بسرعة لا تلحقها العيون

در ! ولا عليك من الفتور

أناملي الرشيقة

تغذي من حولك إعصار يدور

لا تستجدي مني رحمة

ولا هي تخور.

در، در يا مغزلي الطويل !

افتل خيطا حريريا ناصع البياض بهيج

صوفه الناعم يبرع في الحياكة والنسيج

در، در يا مغزلي الصغير !

افتل خيطا شديد البياض متين

يجاري سلاسل الفولاذ مفتخرا

بروح عزمها لا يقبل أن يلين.

التفي يا صوفي البيضاء

من أجل رخاء أهل الدار

يا أيها الخيط الطويل

لي إليك رجاء وانتظار

لا تنكسر

لا اليوم بين يداي

ولا عند مطواة السدى يوم الاختبار

حين تمر طفلتي تحت النول مرات ثلاث.

يا أيتها الصوف التي تثقل مغزلي

انسابي مسرعة بين أناملي

هل يوجد في الدنيا لدى الأهل أغلى

من صوف وحنطة ؟

هل يوجد أغلى

من حنطة وصوف ؟

يا أيتها الصوف !

بيضاء كنت،

رمادية أو سوداء

أنزلي علينا من بركاتك

بعون الرب الرحيم.

 

هكذا الحال في العالم الدنيوي

ترجمة أحمد أغبال

هناك دوما من يوجد فوق

وهناك دوما من يوجد تحت

هكذا الحال دوما في حياتنا الدنيا

الغنى فوق، والفقر تحت

الضعيف تحت، والقوة فوق

هكذا الحال دوما في حياتنا الدنيا

مهراس يتلقى الضرب من المدقة

مثلما السندان يتلقى الضرب من المطرقة

والرحى النائم يكابد هول الرحى الذي يدور

والبغل يمضي كل حياته تحت النير

والشرفة تثقل كاهل رافدة تحتها

وكذا لنزوة القاضي وزن

يا ما أثقله

بربكم، لا تغنوا له أنشودتي

أيها الناس الطيبون ! أما نسيت شيئا ؟

والمرأة التي لا حول لها ولا نصير !

المرأة !

المرأة التي توضع دوما أسفل سافلين مثل الحصير...

 

 

Partager cet article
Repost0
12 novembre 2016 6 12 /11 /novembre /2016 18:12

نساء قبيلة بني ورياغل في ضوء الأنثربولوجيا النسوية

قراءة في كتاب 'وراء باب الفناء' لأرسولا كينغسميل هارت

أحمد أغبال

أرسولا كينغسميل هارت هي زوجة عالم الأنثربلوجيا المشهور دافيد مونتغومري هارت. رافقته في رحلاته إلى شمال المغرب وساعدته على إنجاز بحثه الميداني بإحدى قبائل منطقة الريف. تتميز هذه المنطقة بالفصل الصارم بين النساء والرجال، ولذلك كان لا بد أن يلعب عامل الجنوسة دورا أساسيا في تحديد إمكانية ولوج ميدان البحث وجمع المعطيات. كانت مهمة أرسولا تتمثل في اختراق عالم النساء الموجود 'وراء باب الفناء' ووصفه. وقدمت لنا عنه مادة خام تستحق الدراسة والتحليل. والدراسة الحالية هي عبارة عن محاولة لتحليل وتأويل المعطيات الإتنوغرافة التي جمعتها أرسولا كينغسميل هارت ونشرتها في كتاب أشبه ما يكون بكتب السير الذاتية.  والقضايا التي كشفت عنها.

Ursula Kingsmill hart is the wife of the famous anthropologist David Montgomery Hart. She accompanied and assisted him in fieldwork in the northern Morocco amongst Rifian tribes. In this rural area, characterized by a sharp gender segregation, the access to the field and collecting of data would necessarily be determined by gender to a significant extent. Ursula’s mission was to investigate the world «Behind the courtyard door».  She was expected to follow strictly the established data collection rules. But, it clearly appears that the process of data collection was fundamentally shaped by her gender identity and other personality traits. Her fieldwork experience was marked by friendship and by her intimate engagement with women’s daily lives. This subjective approach revealed the hidden dimensions of the rural women’s life in a pivotal time of Moroccan modern history. It is subjective in the sense that the researcher takes account of people existential experience and takes part in it using the first-person narrative perspective to present events. The present study is an attempt to analyze and interpret the ethnographic data collected by Ursula Kingsmill Hart and the key issues she has identified.

            مقدمة

ربما كانت أرسولاUrsula  هي أول امرأة غربية تمكنت من اختراق عالم المرأة الأمازيغية المنغلق في منطقة الريف الواقعة شمال المغرب. إنها أرسولا كينغسميل هارت، زوجة عالم الأنثربولوجيا الأمريكي دايفيد مونتغومري هارت David Montgomery Hart صاحب كتاب "أبت ورياغل"[i]. لم يكن باستطاعة هذا الباحث أن ينفذ إلى عالم المرأة القبلية الريفية بسبب التفرقة الصارمة التي يقيمها أهل الريف بين الرجال والنساء. كان عليه أن يستعين بزوجته أرسولا من أجل اختراقه. تعرف عليها لأول مرة عام 1958 ثم تزوجها. لم يسبق لأرسولا أن اشتغلت بالأنثبرولوجيا، ولكن زوجها أهلها من خلال تلقينها أساسيات البحث الميداني. كان يتوقع منها مراعاة قواعد المنهج الميداني المتعارف عليها. أخبرها بأن عالم النساء يزخر بشخصيات متنوعة ومختلفة تربط بينها علاقات شديدة التوتر، وبأن البحث الميداني "هو الكد والتعب بدون أدنى وسائل الراحة"، ويضيف قائلا: "وفي حالات قليلة جدا يمكن الاستمتاع بلحظة من العزلة. وأكثر من ذلك على المرء أن يتنبه لأبسط التفاصيل ويسجلها بدقة. وهذا ما يمكن القيام به دائما أثناء الجلوس في غرفة مليئة بالضيوف"[ii]. (نظرا لكثرة الاستشهادات المأخوذة من هذا الكتاب، سنكتفي بعد الآن فصاعدا بالإشارة ضمن المتن إلى أرقام الصفحات)، وحذرها من الانحياز إلى أي طرف بقوله: "لا تنحازي إلى جانب أحد، اقتصري على أن تكوني مجرد ملاحظة" (ص. 48) داعيا إياها إلى أن تنتبه لأبسط التفاصيل، وتسجلها بدقة على الفور، وأن لا تثق بذاكرتها. ولكنها تمردت على زوجها، وألقت طريقته في البحث جانبا، وابتكرت لنفسها في خضم البحث الميداني طريقة متميزة في التقصي والاكتشاف، ترتكز على مقومات هويتها الأنثوية ومصادراتها الضمنية، وتنسجم تمام الانسجام مع موضوع البحث المتمثل في الحياة اليومية للنساء القرويات. تبلورت طريقتها في الحصول على المعلومات تحت تأثير مقومات هويتها الأنثوية التي مكنتها من إقامة علاقات ودية مع النساء والانخراط الحميمي في حياتهن اليومية. وهي مقاربة ذاتية، بمعنى أن الباحثة أخذت بعين الاعتبار التجارب الوجودية للنساء، وشاركتهن همومهن واستمعت لما بداخلهن، واستعملت ضمير المتكلم في سرد الوقائع. وقدمت لنا تجربتها المؤثرة في كتاب شيق تحت عنوان "وراء باب الفناء: الحياة اليومية للنساء الريفيات". وسنحاول فيما يلي تقديم قراءتنا وفهمنا لهذا الكتاب من خلال تحليل ما ينطوي عليه من معطيات إتنوغرافية. وتنبع أهمية هذا الكتاب من كونه يؤرخ لمحطة مفصلية من سيرورة التغير الاجتماعي في الوسط القروي بالمغرب.

1. أنثربلوجيا وجودية من أجل فهم المرأة الريفية

لم يكن بوسع أرسولا، التي وصفها زوجها الأنثربولوجي بأنها "رومانسية وعصبية"، أن تكتفي بدور الملاحظ الخارجي: "رباه إ كم هو مغرور، قلت في نفسي. ابتسمت في أعماقي. أن أكون غير منحازة، وأن لا أتورط، سيكون الأمر صعبا في هذا العالم الصغير، عالم منغلق ومتجانس" (ص. 48). وتورطت حتى البكاء. بكت بحرارة  مع النساء أثناء مراسيم الحناء ليلة الزفاف. "الجميع يبكي خلال هذه المراسيم. أما دايف، فقد نصحني أن أكون يقظة، بينما أنا كنت أقول في نفسي: إذا بكى الجميع، فمن من المؤكد أن أبكي أنا كذلك. لا يمكنني أن أظل مجرد ملاحظة فقط" (ص. 75). دونت أرسولا مشاعرها وملاحظاتها في كتاب أشبه ما يكون بكتب السير الذاتية، وصفه زوجها بقوله في تقديم الترجمة الأسبانية: "إن هذا العمل كتب بعطف وحنان إنساني" (ص. 15)، ويقصد بذلك أنه لم يراع قواعد المنهج الأنثربولوجي المتعارف عليها في الأوساط الأكاديمية.

لقد قررت أرسولا أن تخالف قواعد الأنثربولوجيا ذات التوجه الوضعي لتتعاطف مع النساء الريفيات وتعيش معهن تجاربهن الشعورية بحلوها ومرها، فحزنت بحزنهن، وشدت بشدوهن ورقصت، وشاركتهن هموم المرأة ومشاغلها واهتماماتها؛ تزينت مثلهن متباهية بمفاتن المرأة، وعانت مثلهن من ضعف قدرة الرجال، حتى ولو كانوا أنثربلوجيين مثل زوجها، على فهم خصوصيات النفس الأنثوية وعلى إدراك الفروق بين شخصية الرجل وشخصية المرأة، تلك الفروق التي كشفت عنها دراسة ري كارلسن. أظهرت هذه الباحثة أن "الذكور يمثلون تجارب الذات والآخرين والمكان والزمان بطرق فردانية وموضوعية وغير ودية، في حين أن الإناث يمثلن التجارب بطرق بيشخصية نسبيا، وذاتية ومباشرة" [iii]وتوصلت كودوروChodorow  في دراستها للفروق بين شخصية الذكر وشخصية الأنثى إلى  نتائج مماثلة، وأكدت ما ذهبت ري كارلسنCarlson  من أن الرجل أكثر موضوعية، ويميل إلى التواصل بأشكال أكثر تجريدية؛ وأما المرأة، فتكون أكثر ذاتية، وتميل إلى التواصل بأساليب محسوسة نسبيا. واعتبرت هذه الاختلافات عامة شمولية  إلى حد ما[iv].

تعاملت أرسولا مع النساء الريفيات في دراستها بطرق شخصية، ودية، ومحسوسة على عكس ما كان يتوقع منها زوجها الذي يميل أكثر إلى الطرق الموضوعية المتعالية، بحيث يمكن القول إن أسلوب البحث الأنثربولوجي عند أرسولا هو أسلوب مطبوع بطابع الأنوثة، بينما يمكن وصف أسلوب زوجها بأنه أسلوب ذكوري. لم يكن بوسع دافيد هارت أن يعترف لأرسولا بأسلوبها المتميز ولا بقدرتها كباحثة أنثربولوجية. يقول في تقديمه للترجمة الأسبانية: "وفي رأيي إن هذا العمل كتب بعطف وحنان إنساني [...] أقول هذا، لأن صاحبة الكتاب، أرسولا كينغسميل هارت، كانت زوجتي، وأنا هو ذلك الأنثربولوجي المعني بالأمر" (ص. 15). وحين قالت له في إحدى المناسبات بكل تلقائية وبراءة: "يعجبني عملك"، رد عليها غاضبا: "ليس عملا، بل هي مهنة، وأحد فروع المعرفة" (ص. 49). تكرر سوء التفاهم هذا حين طلب منها يوما أن تساعده في كتابة بعض الأشياء على الآلة، أجابت مستفسرة: "هل تعني رقانة المسودة الأولى من ذلك الكتيب الذي أردت كتابته هنا ؟"، ورد عليها كعادته غاضبا: "أنا لا أحرر كتيبات إ سيكون مقالا أو دراسة. تبا لك 'أورس'. عليك أن تتعلمي مختلف المصطلحات الأكاديمية إذا أردت مساعدتي في عملي. العمل الميداني الذي أقوم به لسنوات هو بهدف إنجاز دراسة أكاديمية من أعلى مستوى.. كتيب إ". وردت عليه: "أنت تأمر" (ص. 82)؛ وكأنها تريد أن تقول: إنك تأمر مثلما يأمر كل الرجال الريفيين نساءهم.

بلغ سوء التفاهم بين دافيد وأرسولا حدوده القصوى حين وظفت هذه الأخيرة أسلوبها الأنثوي المحسوس في التواصل والاندماج مع النساء الريفيات من أجل سبر أغوار تجاربهن الذاتية، وكان أن تزينت بزيهن، وتجملت بمساحيقهن، وتقمصت شخصيتهن. ولما أقبلت عليه وهي على ذلك الحال، أمضى وقتا في التحديق إليها وفحصها قبل أن يتعرف عليها: "نظر إلى وجهي وأمعن النظر. تعرف علي بعد ذلك وانفجر ضاحكا وهو يتأرجح إلى الوراء وإلى الأمام" [وصاح]: "رباه إ ماذا فعلت بنفسك ؟ تشبهين 'مدام' السيدة العجوز في بيت للدعارة بالدار البيضاء". وعلقت أرسولا: "أن أشبَّه بالعاهرة لا يهمني، لكن بعاهرة عجوز وقبيحة، هذا يهمني طبعا" وأضافت: "لا داعي لتذكيرك بأن كل هذا، قمت به من أجل العمل الميداني" (ص. 59-60).

يرجع الفضل إلى أرسولا في الكشف عن حدود الأنثربلوجيا الموسومة بسمات الشخصية الرجولية في تعاملها مع عالم النساء. ذلك لأن أسلوب التعامل الموضوعي التجريدي الذي يلتزم الحياد في التعامل مع المبحوثين يكون مناسبا أكثر لدراسة البنية الشكلية للمجتمع وأقل قدرة على فهم الجوانب غير الشكلية وما تنطوي عليه من تجارب وجودية حميمة. لم تكن أرسولا عالمة أنثربولوجية ولا محللة نفسية، ولم تنظر إلى نفسها قط على أنها كذلك، وإنما جاءت إلى الريف لمساعدة زوجها على استكمال البحث في الجوانب المغمورة من المجتمع الريفي ولإشباع نزوتها الرومانسية المشحونة بروح المغامرة. لم تكتف بتعليمات زوجها الأنتربلوجي، وإنما ابتكرت أسلوبها الخاص في البحث والتقصي، تدون كل ما ينشأ عن تفاعلاتها مع كل من تصادفه في غمرة الحياة اليومية من نساء وأطفال ورجال وحيوانات أليفة دون أن تستثني زوجها الأنثربلوجي؛ تقرأ ما يختلج في النفوس من هواجس وآمال وما يزدحم في أعماقها وظلالها من رغبات ومخاوف. لم تكتف بمراقبة ما يجري في الحياة اليومية بشكل تلقائي وفقا لرغبة زوجها الأنثبرولوجي، ولكنها كانت تشارك في صنع الحدث، بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك: أخذت بزمام المبادرة، وراحت تلعب الأدوار، تلقي بالجمرة في بركة الحياة اليومية لترى ما ينشا عن سقوطها من تموجات تخبرها بما كان يمكن أن يكون ولم يكن، وبما يمكن أن تؤول إليها الأمور في المستقبل القريب والبعيد. تقنية لعب الأدوار وافتعال الأحداث لبيان حدود الواقع وحدود الممكن، هي تقنية تخرج عن المألوف في التقاليد الأكاديمية. هذا بالإضافة إلى أنها استخدمت تقنية السرد الذاتي بضمير المتكلم. وسوف نقدم أمثلة على ذلك في معرض الحديث عن بعض النماذج من النساء الريفيات.

2. المحيط الجغرافي وساكنته في منطقة بني ورياغل  كما بدا لأرسولا

في عام 1959 انطلقت أرسولا مع زوجها من طنجة إلى الريف على متن سيارة لاندروفر رباعية الدفع، في رحلة مضنية استغرقت يومين. كانت الطريق معبدة وكثيرة المنعرجات بسبب كثرة التلال والجبال. وصلا بعد عناء شديد إلى السوق الرئيسية لبني ورياغل التي تنتهي عندها الطريق المعبدة. ومن هناك انطلقا إلى منزل موحند، مساعد دافيد مونتغومري هارت في بحوثه الميدانية بالمنطقة، عبر سرير وادي النكور، المسلك الوحيد والخطير المؤدي إلى المنزل المعلق على إحدى التلال. كان على المضيف، بوصفه الأدرى بشعاب الريف، أن يتولى قيادة اللاندروفر. قبل موعد الرحلة، أخبرا موحند بقدومهما بواسطة عدة رسائل تيليغرافية. ومثلما هو الحال بالنسبة لوسائل النقل، تأخذ هذه الرسائل "مسارا معقدا قبل أن تصل أخيرا إلى المركز العسكري، ومنه إلى المعني بالأمر، حيث ينقلها أحد ما [غالبا ما يكون هو عون السلطة] شفويا بعد أن يقطع أميالا عديدة" (ص. 27-28).

يبدأ الريف من بلدة ترجيست، كما يدل على ذلك اسمها الأمازيغي. إنها بوابة الريف الأوسط الغربية، تفضي إلى فضاء جغرافي غير مضياف، يبعث كل شيء فيه على الحزن: "جبال جافة بقمم ذات صخور رمادية"، تتخللها الأودية والمجاري "المتعطشة للمياه". هكذا بدا الريف لأرسولا عندما رأته لأول مرة. لكن الحزن المحتوم تحول في قلبها إلى حب: "هذا المنظر الخشن والحزين سرعان ما فتن قلبي" (ص. 27). كان لابد لقلبها المفعم بالروح الإنسانية أن يتعاطف مع أحزان الريف ومآسيه. لم يفتها الانتباه إلى قط مهمل نحيل مغطى بالغبار يبحث في يأس عن الطعام. لعلها قرأت فيه علامات الفقر المستشري في هذه المنطقة النائية المعزولة. أدركت عند احتكاكها بالسكان أن الفقر في الريف هو القاعدة وليس الاستثناء (ص. 55). وفيما بعد، غيرت الهجرة إلى أوربا ملامح وجه الريف، ولكنها سلبت روحه إ

الظروف الطبيعية هنا قاسية، يتطلب التأقلم معها قدرة كبيرة على التحمل. كيفت العوامل الطبيعية ثقافة الريفيين، وصنعت من خلالها شخصيات تتصف بدرجة عالية من الصلابة والقوة. بدت الحياة لأرسولا عند وصولها إلى بيت موحند أكثر بدائية مما كانت تتوقع: كلاب شرسة تنبح من حولها وتحاول عضها؛ منزل طيني منخفض محاط بنبات الصبار، منفرد ومنعزل على التل، تنحدر منه مسالك عديدة في اتجاه الوادي، أطفال ورجال "يرتدي أغلبهم ثيابا رثة وممزقة"، يمشي العديد منهم حافي القدين، وينتعل بعضهم بلغات قطعت أطرافها الأمامية لكي لا تؤذي الأصابع؛ "يتسم مظهر الجميع بالخشونة والصلابة التي تميز سكان البادية" (ص. 30). لا وجود هنا للتجمعات السكانية، فالمنازل متباعدة عن بعضها البعض، يقع كل واحد منها على مرتفع يسمح بمراقبته عن بعد ورؤية كل من يقترب منه، هذا بالإضافة إلى الكلاب الشرسة التي تحرسه، ونبات الصبارإ كل ذلك لا يسمح بتشكل قرى حقيقية وعلاقات الجوار. وخلصت أرسولا إلى أن "الريفي يسيء الظن بجيرانه ويحرص بغيرة كبيرة على عزلة النساء" (ص. 31). يبدو وكأن ثقافة المجتمع الريفي قد تشكلت بكاملها حول تصور معين للمرأة ودورها.

3. وضعية المرأة الريفية خلال الستينات من القرن الماضي

بدل أن أتحدث عن وضعية المرأة الريفية بصفة عامةـ ارتأيت أن أقدم ثلاثة نماذج مختلفة من النساء وفقا لمنهجية دراسة الحالة انطلاقا من الملاحظات التي أجرتها أرسولا كينغسميل هارت حولهن وجمعتها في كتابها "وراء باب الفناء". يتعلق الأمر بالزوجة الأولى لموحند، وزوجته الثالثة، وزوجة تشوشوكت أخ موحند من أمه. وقبل التطرق إلى هذه الحالات، لا بد من تقديم نبذة عن حياة الرجلين.

موحند، مساعد دافيد هارت، هو رجل تقليدي في حوالي الثلاثين من العمر. كان الابن الذكر الوحيد لأبيه وأمه الأرملة؛ ولذلك كان لا بد أن يحل محل أبيه المتوفى ليصبح هو رب الأسرة. له ثلاث أخوات متزوجات، نوفيت إحداهن وخلفت فتاة تكفل بها إلى أن تزوجت وهي في ربيعها الثالث عشر. أقام بمناسبة العرس حفلا كبيرا، حضرته أرسولا، وشاركت في مراسم الحناء التي تقام في اليوم الثاني من الاحتفالات، ونقلت لنا عنها صورة مؤثرة. 

قدمت لنا أرسولا عن موحند صورة توحي بسمات شخصيته العميقة وتكشف عن انطباعاتها ومشاعرها نحوه: " كان رجلا جميلا بما فيه الكفاية، يلبس جلبابا مخططا يخفي تحته لباسا أوروبيا. كان يضع [على رأسه] عمامة بشكل متقن معوجة بأناقة نحو العين اليسرى. لم يكن موحند طويل القامة، لكن جسمه كان عريضا إلى حد ما وقويا. عيناه المشعتان كحبتي زيتون تضيئان وجهه العريض وأنفه الأخنس. كان يختبرني ويقدر قيمتي دون أن يبدو أنه يقوم بذلك الفعل، وتمنيت أن أكون قد نجحت في الاختبار" (ص. 28). كان يتكلم اللغة الأسبانية، ما سهل على أرسولا التواصل معه. يدخن السجائر ويتناول الخمر في حانات الحسيمة كلما أتيحت له فرصة للذهاب إلى هناك. عثر في الغرفة الذي تقيم فيها ضيفته مع زوجها على قنينة خمر، وأتى عليها دون إذنها، ولم يُبق فيها شيئا. يبدو أن موحند يفقد السيطرة على نزواته حتى وإن كلفه ذلك الإخلال بآداب الضيافة والأخلاق العامة. ومع مرور الأيام برزت سمة أساسية من سمات شخصية موحند: فقد تبين أن له شخصية ماكيافيلية تمتلك القدرة على التخطيط الاستراتيجي البعيد المدى. حين عاد دافيد وأرسولا إلى الريف لاستكمال البحث الميداني بعد رحيلهما قبل أربعة أشهر، استقبلا بحفاوة مبالغ فيها من طرف جميع أفراد أسرة موحند. "كانت ارحيمو [أم موحند] تنتظر أمام الباب. عانقتني بشدة هذه المرة، حتى إنها صافحت دايف [دافيد هارت] - هذا دليل على أننا قد غدونا من أفراد العائلة، وكانت هذه المرة الأولى" ("ص. 85). حتى يامنة (أخت موحند)، التي قالت عنها من قبل "هي دائما ضدي"، استقبلتها بحرارة زائدة. من المحتمل أن يكون هذا التصرف ناتجا عن تأثير موحند الذي كان بصدد إعداد خطة تمكنه من الحصول على جواز السفر من أجل الهجرة إلى أوروبا. وكان يرغب في أن يتوسط له دافيد هارت لدى السلطات لتحقيق غايته.

وبالفعل، فقد تمكن من الحصول على جواز السفر الذي لم يجد إليه سبيلا من قبل، بمساعدة دافيد هارت وزوجته حين بدأ يفكر في الهجرة إلى هولندة عام 1964. حقق ما كان يصبو إليه في أوائل عام 1968، وكانت أرسولا قد استقرت مع زوجها في أسبانيا قبل ذلك بعدة شهور. ذكرت أرسولا أنه "ما بين عام 1968 و1985 - السنة التي غادر فيها موحند أوروبا بعد وفاة أمه عن عمر يناهز المائة سنة - كان موحند يظهر أمام بيتنا في أسبانيا، وحيدا أو برفقة الأصدقاء والأقارب بمعدل مرة كل سنة، يستريحون يوما أو إثنين" (ص. 196). وعندما قرر موحند التقاعد والعودة إلى الريف للاستقرار به بشكل نهائي، هاتف دافيد وأرسولا ليخبرهما بأنهما مدعوان إلى منزله في أي وقت. وفي عام 1987، أخبراه أنهما في طريقهما إلى الريف وضربا معه موعدا للقاء في مكان محدد. ولكم كانت خيبتهما كبيرة حين أدركا في النهاية أنه خلف الموعد ولم يستضفهما إلى منزله كالعادة. وعندما ظهر أخيرا وهو يقود سيارة ميرسديس كبيرة، ضرب معهما موعدا لليوم الموالي بالحسيمة. "لقد توصل بالتلغراف، تقول أرسولا، لكنه لم يهتم بها. ولم تكن هناك دعوة لشرب الشاي أو الأكل. يعتبر هذا التصرف تقصيرا غير معهود من واجب الضيافة حين يتعلق الأمر بمغربي" (ص. 169). واحتفظت أرسولا في ذاكرتها عن تلك الأيام بصورة قاتمة، حيث وصفتها بـ"الأسبوع السيئ الذكر" (ص. 171).

يعتبر موحند، في تلك الفترة من ستينيات القرن الماضي، غنيا بمعايير الريف. وضعيته المريحة نسبيا، أهلته لأن يصيح باتريارك متعدد الزوجات. تزوج وهو في الخامسة عشرة من العمر فتاة تكبره بخمس سنوات. أنجبت معه خمسة أطفال، ثم هجرها دون أن يطلقها، وتركها تعيش في منزل العائلة حيث يقطن عمه على مسافة تقدر بثلاث ساعات من السفر على ظهور البغال. تزوج فتاة في الرابعة عشرة من العمر، أنجبت له فتاه ثم طلقها لاعتقاده أنها تمارس السحر من أجل إيذائه وجعله عاجزا جنسيا بسبب غيرتها من زوجته الأولى. وأخيرا تزوج فتاة في الخامسة عشرة من العمر، وأنجبت له ثلاثة أطفال. وكثيرا ما كان ينهال عليها بالضرب عندما تظهر الغيرة من زوجته الأولى كلما اضطر إلى الذهاب إلى منزل العائلة حيث توجد الزوجة الأولى التي يتجنب زيارتها بسبب كراهيته الشديدة لها. يفتخر موحند بابنه من الزوجة الثالثة الملقب بالأمريكاني ويغالي في تدليله؛ وأما ابنه من الزوجة الأولى، فقد فصله عن أمه ليرعى له الماعز، ومع ذلك كان يتعامل معه بقسوة شديدة. 

يحتوي منزل موحند على فناء داخلي مغلق، محاط بالغرف، تمضي فيه النساء معظم أوقاتهن وهن يقمن بالأعمال المنزلية. لكل زوجة غرفة خاصة بها، وفي مكان منعزل توجد غرفة الضيوف. ويحتوي الفناء في جانب منه على إسطبل للبغلة والماعز. وعلى مسافة قصيرة من المنزل، بنيت أفران على شكل قبة، لكل زوجة فرن خاص بها؛ كما تتوفر كل زوجة على أواني خاصة بها: مجمر وقلال لنقل الماء من الوادي، وجرار الزيت، وغير ذلك من الأواني الخزفية.

يقتصر دور موحند البتريارك في توزيع الأدوار، وإعطاء الأوامر، وتسيير مختلف العمليات، وينزوي بعد ذلك في مكان ما ليدخن سجائره. كان يعتقد أن الحرث والحصاد وغيرهما من الأعمال الزراعية ليست من مستواه، ويترك للآخرين مهمة القيام بها مكتفيا بإصدار الأوامر.

لاشك أنه كان طفلا مدللا في صغره، وخاصة من جهة أمه، مثلما هو الحال بالنسبة لابنه الملقب بالأمريكاني وغيره من الأطفال الريفيين من أمثاله. يبدو من خلال ملاحظات أرسولا أن علاقة الأم بابنها في الريف هي في الغالب علاقة التحام تمتزج فيها رغبات الأم برغبات طفلها الذي تعتبره مكملا لها. ومع مرور الوقت تتحول هذه العلاقة الحميمة إلى علاقة هيمنة وسلطة. وعندما يصبح الابن رجلا يحتل موقع البتريارك، يظل، مع ذلك، خاضعا لسلطة أمه التي توجهه من خلف الستار. أم موحند هي الآمرة المطاعة في البيت، تتحكم في موحند وفي نسائه، توزع عليهن الأدوار وتخضعهن للمراقبة اللصيقة في كل شيء. هناك سلطة أخرى فوق سلطة موحند، وهي سلطة عمه العجوز الذي تقطن زوجته الأولى معه في منزل العائلة الأصلي. ولكن موحند لا يتحمل سلطة العم، وهذا سبب آخر من الأسباب التي كانت تمنعه من زيارة زوجته المهجورة وأبنائهما.

وأما أخوه من أمه شعيب أوعيسى الملقب تشوشوكت، فكان يحتل مكانة وضيعة بين أفراد الأسرة. لقب بهذا الاسم لأنه، في صغره، كان يقيق مقلدا صوت الدجاجة من أجل إثارة الانتباه. وهو رجل قصير القامة، خفيف الحركة، لباسه رث، يعتمر عمامته بطريقة غير منمقة، يتكلم قليلا من الأسبانية ولا يتقن العربية، ويدخن كثيرا في غرفته. يعمل بجد وحيوية، على خلاف موحند، ويقوم بأسوأ الأعمال وأصعبها؛ ولكن زوجته كانت أنيقة وجميلة جدا.

 

[i] Hart, David M. (1976). The Aith Waryaghar of the Moroccan Rif: An Ethnography and History.

  University of Arizona Press :Tucson (USA), 1976.

[ii]  أرسولا كينغسميل هارت. وراء باب الفناء: الحياة اليومية للنساء الريفيات. ترجمه عن النسخة الإسبانية عبد الله الجرموني. مطبعة النجاح الجديدة – المغرب 2010، ص. 32.

[iii] Carlson, Rae. «Sex differences in ego functioning: Exploratory studies of agency and communion».  

  Journal of Consulting and Clinical Psychology, Vol 37(2), Oct 1971, p. 270.

[iv] Chodorow, Nancy. «Family structure and feminine personality». In Michelle Zimbalist Rosaldo &

  Louise Lamphere (eds). Woman, culture and society. Stanford University Press, USA : 1974.

نساء قبيلة بني ورياغل في ضوء الأنثربولوجيا النسوية

قراءة في كتاب 'وراء باب الفناء' لأرسولا كينغسميل هارت

أحمد أغبال

 

3-1. خدوج زوجة موحند المفضلة

كان عمرها لا يتجاوز الخامسة عشرة حين تزوجها موحند، وبسرعة أصبحت أما لثلاثة أطفال في الوقت الذي كانت تنتظر وضع حملها الرابع. أكبرهم إدريس البالغ من العمر ثلاث سنوات، تلته مغنية، وعمرها سنتان، ثم محمادي الرضيع. وعندما اكتشفت بفضل أرسولا مزايا الطب الحديث بدأت تفكر في زيارة الطبيبة بالحسيمة للحصول على معلومات بخصوص وسائل منع الحمل بدون علم زوجها، لأن موحند يرفض فكرة تنظيم الأسرة رفضا باتا. ولكن خدوج لا تقبل أن تظل المرأة بدون إنجاب، فهي ترغب ، من جهة، في إنجاب العدد الكافي من الأولاد لإرضاء زوجها والحصول على مكانة محترمة داخل الأسرة، وترغب، من جهة أخرى، في منع الحمل حفاظا على سلامتها نظرا لخطورة ظروف الوضع.

يتحدد العدد الكافي من الأولاد بمدى قدرة المرأة على تحمل الوضع. ويمكن القول، استنادا إلى المعطيات المتوفرة، بأن عدد حالات الوضع التي يمكن للمرأة أن تتحملها في سياق المجتمع الريفي الذي يتميز بشظف العيش وغياب العناية الطبية، هو ثلاث حالات. فقد بدأت خدوج تفكر بجد في الحصول على وسائل منع الحمل بعد أن وضعت حملها الثالث، وفكرت 'عيشة"، زوجة الابن الأصغر لبوطاهر عم موحند، في الإجهاض لمجرد أن أيقنت بأنها حبلت للمرة الرابعة. بكت 'فطمة'، زوجة ميمون الابن الأكبر لبوطاهر، التي لا يتجاوز عمرها الخامسة عشرة، حين رأت أختها 'عيشة'، حزينة بسبب حملها الرابع. حزنت لحزنها وبكت بمرارة، وكانت قد رأت ما حل بأختها من عذاب الوضع مرات عديدة، رأت ذلك لأن الوضع في الريف لا يعتبر حدثا خصوصيا، وكان لابد من أن تخاف على نفسها وعلى أختها. لم تخبر 'عيشة' زوجها بحملها، وانبرت تبحث عن مولدة تخلصها من الجنين. أسرت لأرسولا أنها جربت كل الوسائل التقليدية لإسقاطه: "فعلتُ كل شيء: شربتُ الماء المر لقشرة الرمان، وأكلت بذرة السنا. إنها سموم تجعلني مريضة فقط. حتى أني جربت رفع القلال الكبيرة المليئة بالماء، ولا شيء" (ص. 150). لا شك في أن أعراض ما بعد صدمة الوضع هي التي تجعل النساء الريفيات أقل حرصا من الرجال على تطبيق الأحكام الشرعية المتعلقة بقطع الحمل أو إيقافه.

يتفق الرجال والنساء في الريف على أن الأسرة الطبيعية هي أسرة كثيرة الأولاد، ولكن كل طرف يقدر حجم الأسرة وفقا لمعاييره الخاصة: فالرجال يقدرونها وفقا لمعيار اجتماعي هو معيار القوة، سواء تعلق الأمر بالقوة العسكرية قديما حين كان الثأر قيمة اجتماعية أساسية، أو بقوة العمل، بينما تقدرها المرأة بمعيار ذاتي، إذ من الأولاد تستمد المرأة قيمتها وسلطتها، وهم بالنسبة لها مصدر فخر واعتزاز بالنفس، والوسيلة التي تبدد مخاوف الطلاق التي تقض مضجعها. ولكن خطورة الوضع وعذاباته ترسم لرغبة المرأة في الإنجاب حدودا؛ ولذلك كانت أكثر استعدادا من الرجل لقبول فكرة تنظيم الأسرة.

هكذا، إذن، كان يتعامل الريفيون المتشبثون بتقاليدهم وأعرافهم، سواء أكانوا رجالا أو نساء، مع عناصر الثقافة الحديثة الوافدة. لقد كانوا يتعاملون معها مثلما يتعاملون مع الأحكام الشرعية بطريقة انتقائية كل حسب مصلحته الخاصة، مما أدى إلى زيادة التوتر في العلاقة بين الرجال والنساء.

 ومع ذلك، ظل الإنجاب يكتسي عند المرأة الريفية قيمة خاصة، فهو يوفر لها الحماية من الطلاق ويعزز مكانتها في الأسرة وفي المجتمع. سألت إحدى النساء أرسولا ما إذا كان زوجها الأول قد مات أم أنه طلقها، أجابت أرسولا كاتمة غيظها: "تم الطلاق". وقالت المرأة الفضولية: "لكن، كيف يطلقك وأنت أنجبت له أطفالا ؟ ربما أراد أن يكون له الكثير من الأولاد إ مع الوقت يمكنك أن تلدي أكثر" (ص. 127). وأما المرأة التي لا تنجب لأي سبب من الأسباب فلا قيمة لها على الإطلاق في المجتمع الريفي، وغالبا ما تكون عرضة لمختلف أشكال العنف الرمزي من طرف النساء الولودات.

وصفت أرسولا مشهدا دراميا جرت أحداثه بين خدوج، التي بدت لأرسولا، في كثير من المواقف، عاقلة ولطيفة وهادئة، واروازنة، الأخت الصغيرة لموحند والبنت المفضلة لأمه، التي لم ترزق بأولاد رغم مرور ثلاث سنوات على زواجها. هزت نشوة الافتخار بالأولاد خدوج، ودفعتها، رغم ما تتصف به من رزانة، لاستفزاز مشاعر أخت زوجها بسخرية لاذعة، وكانت اروازنة قد جاءت في زيارة لأمها بعد غياب طويل. اغتنمت خدوج بذكاء فرصة وجود أرسولا لتوجه سهامها إلى أخت زوجها وهي تلفها بغشاء البراءة متعمدة نشر مشكلتها أمام الملإ لتزيد الأمور تعقيدا: "إنها حزينة، قالت مخاطبة أرسولا، لأنها لم تنجب أولادا بعد مرور ثلاث سنوات على زواجها. فهي تخجل من وضعها أمام عائلة الزوج، وتلومها النساء خاصة الحماة، كما يرغبن أن يطلقها سي عبد الرحمان ويتزوج امرأة اخرى". "مسكينة اروازنة قالت خدوج بازدراء" وأضافت قائلة بعد أن أيقظت مخاوفها: "رزقني الله بالأولاد وكذلك بحماة طيبة". انكفأت اروازنة على وجهها تبكي. كانت خدوج حاملا، تتباها بحملها أمام اروازنة لتنغص عليها الحياة دون أن تبدو أنها تقصد إيذاءها. وللتخفيف من معاناة اروازنة اقترحت أرسولا أن تعرض مشكلتها على الطبيب في مستشفى الحسيمة، فلعله يجد لها حلا.

ولما علمت النساء بنتائج الفحص الطبي الإيجابية، واكتشفن مزايا الطب الحديث، بدأت خدوج تفكر في الحصول على وسائل منع الحمل. أسرت إلى أرسولا أن جسدها لم يعد يتحمل مزيدا من الولادات، وقالت: "فبعد ولادة هذا الأخير سأطلب من الطبيبة أن تفعل شيئا كي لا أحمل مرة أخرى. طبعا بدون علم موحند". بعد ذلك، ازداد انشغال النساء بمسألة منع الحمل "كل ما يهمهن هو الحديث عن كيفية عدم الحمل، الهم الدائم عند النساء" (ص. 135). وهكذا انكشفت لأرسولا حقيقة الميكروكوزم  النسوي في منطقة بني ورياغل، إنه عالم الرغبات المتناقضة والاكراهات المتعارضة، واقع تفصل فيه مسافة كبيرة بين الحاجة والرغبة.

والحقيقة أن تجربة الولادة عند النساء الريفيات هي تجربة أليمة وقاسية جدا، وتزيد الأعراف والتقاليد من خطورتها على الأم ورضيعها. تفرض الأعراف في منطقة الريف أن تمسك المرأة عن الأكل طوال فترة التحضير للوضع مخافة أن تتغوط أثناء عملية الولادة، لأن في ذلك نذير شؤم في اعتقاد المرأة، خاصة وأن الوضع في الريف ليس مسألة خصوصية، مما يزيد الأمور تعقيدا. ويتضاعف آلم المرأة إن لم يكن الجنين في الوضع الصحيح، ولإخراجه، تضغط امرأة بركبتها على جانب من البطن نازلة عليه بثقلها، فإما أن يخرج الجنين أو يموت هو وأمه. إن تجارب الوضع الأليمة تتسبب للمرأة في صدمة نفسية قوية يترتب عنها اضطراب مزمن في الشخصية. تتجلى أعراض ما بعد الصدمة في الخوف الشديد من الحمل مثلما حصل لـ'عيشة'،  ويلجأ بعضهن إلى تجرع بعض الخلطات المريرة والخطيرة من أجل الإجهاض. ومن النساء من يستعملن طرقا مؤذية بصحتهن لمنع الحمل، ويتجرعن الحنظل لاعتقادهن أنه يوقف الحمل. ولذلك كانت المرأة مؤهلة لتقبل وسائل منع الحمل الحديثة والإجهاض. وأما الرجال، فإنهم كانوا، على العموم،  يمتنعون عن مساعدة زوجاتهم في الحصول على وسائل تنظيم الأسرة، ويرفضون استخدام العوازل الطبية لاعتبارات ذاتية محضة. وتقضي العادات الريفية بأن لا يغسل الرضيع أبدا خلال عامه الأول، وأن يغسل مرة أو مرتين بعد ذلك للاعتقاد بأن الاستحمام يضعف الأولاد.

أتاحت أرسولا للنساء المنزويات خلف باب الفناء فرصة لاكتشاف بعض المنتجات الحميمة الخاصة بالسيدات حين سمحت لهن بتجريدها من ثيابها لإلباسها بزيهن التقليدي. اندهشن لرؤية لباسها الداخلي وثدييها غير المتدليين. وصفت أرسولا المشهد الذي افتعلته لترى ردود أفعالهن بقولها: "خلعت رافعة الثديين لتجربها خدوج. ودون مقدمات، خلعت قميصها ولبست رافعة الصدر. ثم بدأت تتحرك يمينا ويسارا، وتقف على أصابع قدميها وعيناها مفتوحتان عن آخرهما دلالة على تعجبها من الحماية التي يمكن أن توفرها هذه اللبسة الخفيفة" (ص. 67). لم تخف خدوج رغبتها في التمتع بالأزياء الحديثة وإن كان لابد أن تخفيها خلف لباسها التقليدي؛ يستعمل موحند نفسه اللباس الأوروبي بطريقة محتشمة، ويضع فوقه لباسه التقليدي. هكذا تسللت الحداثة إلى عالم النساء التقليدي المنغلق في شكل لباس حميمي يحمل معه قيما ومعايير جديدة، ويعمل في سرية على إيقاظ الشهوة الغافية أو المقموعة.

ولكن خدوج كانت متخوفة من زحف النظام التعليمي، وخشيت على نفسها من أن يخطف منها أبناءها. بُنيت أول مدرسة هناك، غير بعيد عن منزل موحند، في بداية الستينات من القرن العشرين، وبدت للمرأة الريفية كالوحش المرعب الذي يثكل النساء، ولذلك ظلت فارغة مهجورة. قد يرجع السبب في ذلك، في المقام الأول، إلى طبيعة العلاقة بين الأم وطفلها، وهي على ما يبدو من خلال ملاحظات أرسولا علاقة التحام. كانت خدوج شديدة التعلق بأبنائها، حتى إنها لا تقدر على زجرهم أو معاقبتهم عندما يقترفون أسوأ الأفعال. اندهشت أرسولا لما رأت ابن خدوج يقوم بحماقات تضاعف من متاعب أمه، ونصحتها قائلة: "يجب عليك أن لا تدعيه يفعل ما يشاء.. إنه يجعلك تتعبين أكثر". أجابت خدوج، التي كانت تعاني من صداع الرأس باستمرار.: "إنه ولدي الأكبر من بين أولادي، ولا يمكنني أن أوبخه، أنظري كم هو ظريف إ" (ص. 91). تغالي في تدليله، ولا تضع لشهواته حدودا ولا كوابح، كأنها تؤهله من حيث لا تدري ليصبح حين يكبر نموذج الباتريارك الذي يطلق العنان لنزواته بلا حدود، متحررا من كل القيود. من المحتمل أن تكون المغالاة في تدليل الأطفال أحد العوامل التي تساهم في تشكل الشخصية النرجسية المتمركزة حول الذات، وهي شخصية متسلطة، تعجز عن تفهم مشاعر الآخرين وحاجاتهم..

كانت الأم في ذلك الوقت تحرص حرصا شديدا على أن يظل الأطفال بجانبها باستمرار معللة موقفها بأن المدرسة تعلم السلوك السيئ للأطفال، وبأنه من الأفضل لهم أن يساعدوا آباءهم وأمهاتهم في الأعمال الزراعية والمنزلية ليتدربوا عليها منذ نعومة أظافرهم حتى لا يجدوا صعوبة في القيام بها عندما يكبرون. تلك تبريرات تخفي حقيقة أخرى تتمثل في خوف المرأة الدفين من غياب الأولاد. كان لموحند موقف آخر، وتتهم النساء زوج أرسولا بأنه هو الذي أثر عليه بأفكاره الغريبة حتى جعله يفكر في إرسال بناته إلى المدرسة. وهكذا أصبحت مسالة التعليم إلى جانب مسألة تنظيم الأسرة والإجهاض من جملة القضايا التي اختلفت حولها آراء الرجال والنساء في الريف في مرحلة ما بعد استقلال المغرب.

3-2. حدومة زوجة موحند المهجورة

يفوق عمرها السيكولوجي عمرها البيولوجي بعشرات السنين: كانت تشعر بأنها عجوز وإن لم تكن قد تجاوزت الخامسة والثلاثين حسب تقدير أرسولا. ضعف قلبها، وخار عزمها، ورسم الحزن ملامح وجهها، فشاخت قبل الأوان. كل ذلك بسبب زواج غير موفق: زواج داخلي كان عبارة عن صفقة بين الأسر أبرمت لاعتبارات تتعلق بالإرث. كان العروس غلاما في ربيعه الخامس عشر. لنتصور شعوره وهو يقف لأول مرة، وجها لوجه، أمام امرأة مكتملة البناء. لعله قرأ في نظراتها ما باحت به فيما بعد لأرسولا حين قالت لها عنه بأنه كان لا يزال طفلا تعود على النوم مع والديه. أصيب بالهلع، وانهال عليها بالضرب في ليلة الزفاف؛ ربما أراد أن يثبت لها رجولته وفحولته بهذه الطريقة الرعناء. شكلت هذه الحادثة صدمة بالنسبة لحدومة؛ وما زالت تتذكرها بكثير من المرارة والتشنج. ولكم كانت فرحة موحند كبيرة حين أصبح أبا لمولود ذكر وهو في السادسة عشرة من العمر. لقد أصبح الآن رجلا إ وكانت فرحة الأم أكبر، لأن هذا المولود يمثل صمام الأمان بالنسبة لها.

لكن فرحتها لم تدم طويلا: فما أن وضعت حملها الثالث حتى هجرها زوجها، وتركها تعيش في بيت العائلة الأصلي بين زوجات أبناء عمه الكثيرات. ناذرا ما كان بزورها، ومع ذلك أنجب معها طفلين آخرين. تزوج موحند بعد ذلك فتاة في الرابعة عشرة من العمر، أنجبت له طفلة ثم طلقها لاعتقاده أنها كانت تمارس السحر. ونظرا لكثرة حديثة مع زوجته الأولى عن السحر الأسود الذي تمارسه زوجته الثانية، زرع في نفسها الهلوسة والوساوس، وحصل لها الاعتقاد بأنها وقعت تحت تأثير ساحرة تريد بها شرا؛ ولصرفه عنها استعانت سرا بخدمات امرأة عجوز متخصصة في درء السحر الأسود. شعرت بأن التعاويذ والرقى صرفت عنها الغم الناتج عن تأثير السحر حسب اعتقادها، ولكن أحوالها استفحلت بسبب سوء المعاملة وكثرة الأشغال. أصبحت تشعر بالإجهاد المستمر، وما زالت تصبر وتكابر مستسلمة للقدر حتى تعقدت الأمور أكثر، وبدأت تشعر بشكل متواتر بألم شديد في الصدر يرافقه اضطراب في التنفس. لعلها أعراض مرض عضوي-نفسي ناتج عن كثرة الضغوط وشدتها.

لم يهجرها زوجها فحسب، وإنما انتزع منها ابنها البكر أيضا ليرعى له الماعز؛ وفي المقابل، تصرف مع ابنته من الزوجة الثانية المطلقة كما لو كان يريد التخلص منها حين تركها تعيش بعيدا عنه في كنف زوجته المهجورة. وإذا علمنا مدى شدة الارتباط العاطفي بين الأم وابنها البكر بالخصوص في المجتمع الريفي، ومدى قوة الشعور بالخزي عند حدوث الطلاق أو الهجران، أمكننا أن نتصور مدى هول الفاجعة التي حلت بامرأة أصبحت على حين غرة أرملة وزوجها حي، وثكلى بابنها حيا. أسرَّت لأرسولا بلهجة من يستسلم للقدر: "...أشعر باني وحيدة رغم وجود أولادي معي. والأكيد أن أحمد ابن طيب، لكن الآن، وبعد أن أصبح يافعا، يجب أن يكون بجانب أبيه. باقي النساء لهن أزواجهن الذين يعتنون بهن، أما أنا فلا أحد لي [...] أعرف أني لا أهمه، إني عجوز" (ص. 155). عجوز إ ربما شعرت بأن العد العكسي لما تبقى من حياتها قد انطلق.

كان منزل العم يعج بالنساء، وكانت حدومة أول امرأة تستيقظ عند الفجر. تباشر العمل وشعرها مكشوف متشابك، تدق الشعير في مهراس خشبي طويل، تطحنه طحنا، ثم تغربل الطحين، وتعد فطائر الشعير وعصيدة الإفطار لأبنائها. عمل شاق ومسترسل، يستمر من غبش الفجر إلى غسق الليل، تتخلله لحظات حديث حميمي بين النساء. ولسوء حظها، لم تكن حدومة تنعم بشيء من الراحة خلال هذه الفترات، بل كثيرا ما كانت تتعرض فيها للإنهاك العصبي، تستغلها بعض النساء، عن وعي أو غير وعي، عن قصد أو غير قصد لإذلالها وقهرها. يكاد يكون العنف الرمزي في عوالم النساء الريفيات المنغلق هو القاعدة بنميمتهن، وتنافسهن، ومباهاتهن بأنفسهن على حساب غيرهن. نفثت تميمونت، زوجة تشوشوكت. المتباهية بجمالها، سمومها ذات مرة في وجه حدومة حين خاطبتها بفظاظة وغلظة أمام النساء: "...سيعود زوجك إلى المرأة الأخرى الجميلة، فهي تعرف كيف تعامله في السرير...لاحظت أنه لا يناديك عند القيلولة لتمضي معه بعض الوقت. نعلم جيدا أنك عجوز وقبيحة.. لكن على الأقل، كان عليك أن تلبسي أحسن حين يكون هنا" (ص. 156). بكت حدومة في صمت، جرت دموعها وامتزجت بطعام طفلتها الصغيرة التي كانت في حضنها.

لاحظت أرسولا أن آلام الصدر لم تعد تبارح حدومة الصبورة. عندما تشتد عليها الأزمة، تعوج قسمات وجهها، ويتصبب العرق على جبينها، وتطفو زرقة على جوانب أنفها. أخبرت أرسولا زوجها موحند بمعاناتها، ولم يكترث لحالها، واكتفى بالقول: "إنها قوية كالبغلة"، وأن أوجاعها عادية وعابرة. كانت حدومة على ذلك الحال حين لسعت عقرب سوداء إحدى بناتها الصغيرات، نسيت آلامها، وهرولت نحوها مفزوعة، وبكت خوفا عليها من الهلاك. نظر موحند إلى طفلته التي أغمي عليها وهي في حضن أمها وقال: "إنها بخير..أعتقد أنها نائمة". صرخت أرسولا: "ستموت إ"، ورد عليها موحند: "في ذلك الحال سيكون ما شاء الله" (ص. 140-141)؛ وحصل أن نجت الطفلة بأعجوبة.

لم يهمل موحند زوجته فقط، بل طال الإهمال وسوء المعاملة أبناءها أيضا. فصل بين الأم وابنها أحمد غصبا عنهما، وتعامل مع هذا الأخير كما لو كان عبدا، يصرخ في وجهه كلما أمره بفعل شيء ما، يشتمه، ويضربه، ويصفه بالأبله، ويناديه بالحمار. قال عنه مخاطبا أرسولا ودافيد : "هذا الولد مغفل، إنه أبله، يشبه أمه"، وكأنه أراد أن يؤلب المجتمع ضد ابنه ليرغمه على قبول هذا التوصيف واستبطانه من خلال جعله عموميا؛ بينما بدا أحمد لأرسولا طفلا وديعا وخجولا ومطيعا، يتفهم مشاكل الآخرين، يتعاطف معهم، ويواسيهم. لم يكن مغفلا، ولكنه كان يعاني من مشكل في السمع، ويتلعثم في كلامه. لهذا السبب كان يكرهه أبوه، ويعنفه بقدر ما كان يدلل ابنه من الزوجة الثالثة الملقب بالأمركاني. ولما لم يجد من يحميه من جبروت أبيه، ولا ملاذا يلوذ إليه، تعلم الصبر مثل أمه، ومنها استمد إنسانيته وقدرته على تفهم الآخرين. لكن هذه الخصال الحميدة تعتبر ضعفا في مجتمع يقاس فيه كل شيء بميزان القوة، وتُفرض فيه الطاعة بواسطة الإهانة. كان أسلوب موحند في التنشئة الاجتماعية أسلوبا يتسم بازدواجية المعايير. وكان هذا الأسلوب كفيلا بأن يصنع من أحد أبنائه نسخة مطابقة له، ومن ابنه الآخر نسخة مطابقة لأخيه تشوشوكت، ليكون الأول سيدا والثاني عبدا مسخرا له يقوم بأسوأ الأعمال، وبذلك يعيد إنتاج بنية علاقات السلطة داخل الأسرة.

كانت حدومة على وعي تام بوضعية ابنها ومصيره، ولكنه وعي شقي، يزيد من آلامها حين لم يكن بوسعها أن تفعل شيئا سوى الاستسلام وانتظار الأجل المحتوم. وفجأة، توقف قلبها، ولفظت أنفاسها بين يدي أرسولا وهي عائدة تحمل قلة ماء نهلته من العين المنبجسة أسفل الوادي على بعد كيلومتر ونصف.

3-3. تميمونت زوجة تشوشوكت

تقطن مع زوجها في منزل العائلة الأصلي، حيث يهيمن بوطاهر، عم موحند، وزوجته التي هي حماة كل النساء تقريبا. لاحظت أرسولا للوهلة الأولى وجود شخصية متفردة ومتميزة في عالم النساء المتجانس بالنظر إلى أنماطهن السلوكية؛ إنها تميمونت، زوجة تشوشوكت، وهي امرأة تناهز الثلاثين من العمر، فاتنة الجمال، طويلة وهيفاء. رسمت أرسولا لوحتها بالكلمات على النحو التالي: "عيناها سوداوان، أنفها مستقيم، شفتاها دقيقتان وجميلتا الشكل. عنقها الرشيق يبدو في تناسق تام مع حليها اللامعة". اندهشت أرسولا لرؤيتها، وتساءلت في نفسها: "كيف يمكن لامرأة جميلة أن تتزوج بـ'تشوشوكت'، رجل يلبس رث الثياب، ملطخ دائما بالوحل، ويعمل في أبخس الأعمال"(ص. 123). هذا بالإضافة إلى كونها ذكية جدا، تتفوق على جميع النساء بفطنتها ونباهتها، حتى إن زوجها يبدو أمامها هزيلا، من هذه الناحية، وضعيفا؛ ومع أنها لم تنجب أولادا، إلا أنه يخاف منها خوفا شديدا. يذكرنا وصف أرسولا لشخصية كل من تشوشوكت وتميمونت ولطبيعة العلاقة التي جمعت بينهما بما كتبه كربنزانو  Crapanzano في معرض حديثة عن 'عيشة قنديشة'، الجنية التي تسحر القلوب بجمالها في أساطير الطريقة الحمدوشية. تتجلى لمن أرادت تملكه في هيئة غادة تسحر القلوب بجمالها. فإن هو ضاجعها قبل أن يدرك حقيقة أمرها، أصبح عبدا لها، يحبها حتى الجنون، ويخاف منها خوفا شديدا في نفس الوقت. تسيطر عليه، وتجبره على ارتداء رث الثياب، وتصرفه عن العناية بمظهره ونظافة جسمه[i].

  تعرف تمبمونت كيف تنظم أوقات عملها بطريقة عقلانية ليبقى لها متسع من الوقت للزينة والاسترخاء. تتزين بحليها ومساحيقها، وترتدي أجمل ما لديها من ثياب في كل الأوقات على عكس النساء الأخريات، وتقضي معظم الوقت متكئة على أريكتها في عزلة عنهن. تشعر بجمالها، ولا تتوانى في استعراض مفاتنها بنوع من الكبرياء والاعتزاز بالنفس أمام الجميع. تجد المتعة في الذهاب إلى العين لجلب الماء رغم صعوبة هذا العمل، لأنها الفرصة الوحيدة المتاحة لها للظهور أمام الرجال، تختلس نظراتها بمكر إليهم مخالفة بذلك أعراف القبيلة غير آبهة بما يصدر عن زميلاتها من ردود فعل تعبر عن استيائهن إزاء سلوكها.

شخصية تميمونت الشهوانية المتفردة عمن حولها بنزوعها الظاهر إلى الخروج عن أعراف القبيلة ومعاييرها، أهلتها للانفتاح على نمط عيش جديد رغم حواجز العزلة. صنعت لنفسها عالما خاصا بها ضمن حدود غرفتها، ووفرت فيه لزوجها من وسائل الراحة والاسترخاء ما ينسيه هموم العالم الخارجي الشديد التوتر بسبب كثرة القيل والقال. غرفتها المؤثثة بشكل أنيق تنم عن ذوق رفيع غير معهود لدى النساء القرويات. على أرضية الغرفة زربية جميلة مبثوثة من حولها وسائد مزركشة بأناقة، وفي الوسط مائدتان مستديرتا الشكل تعلوهما منافض للسجائر وصينية من نحاس أصفر منقوشة ومصقولة بعناية، والستائر مسدلة على النوافذ المطلة على الفناء. ومن بين الزخارف التي تؤثث الغرفة، يوجد "كنز حقيقي"، وهو عبارة عن جهاز ترانزيستور وضع على قماش مطرز باليد. تساءلت أرسولا عن مصدر تسرب الأفكار التي غيرت نمط العيش في هذا العالم الصغير. لعله الترانزيستور، جريدة تميمونت الشفوية.

وجريا على عادتها في افتعال الأحداث وفقا لتقنية لعب الأدوار، أخرجت أرسولا من حقيبتها علبة سجائر من محفظتها، تناولت إحداها وقدمت الأخرى على سبيل المزاح لتميمونت، قبلتها بدون تردد، وراحت تدخن وتسعل. ولدهشتها اكتشفت أرسولا أيضا أن تميمونت كان بحوزتها عدد قديم من مجلة ELLE مخبأ تحت نضيدة، وهي مجلة متخصصة في شؤون السيدات. في الصفحة الأخيرة إشهار لنوع من السجائر: شاب يهم بإشعال سيجارة من يفترض أنها عشيقته. من الواضح أن تميمونت كانت تتماهى مع الفتاة، وتحلم لو أن تشوشوكت كان هو ذلك الفتى الذي يشعل السيجارة لحبيبته.

خلاصة

كانت الحركة النسائية لازالت في بداية تشكلها بالمغرب خلال فترة الستينيات من القرن الماضي، واقتصرت على ثلة من النساء المثقفات اللواتي ينتمين إلى الطبقة الوسطى الناشئة في المدن. وكانت مطالبها مرتبطة ببرامج الأحزاب السياسية، وتمحورت حول مسألة تعليم الفتاة والقضايا المتعلقة بمدونة الأحوال الشخصية. وأما حقوق المرأة فلم تنل ما تستحقه من الاهتمام من لدن القوى السياسية في ذلك الوقت، وربما تم تهميشها عن قصد. والمفارقة، هي أن المرأة القروية اتخذت موقفا سلبيا من مسألة تعليم الفتيات، ولكنها عملت بسرية من أجل انتزاع بعض الحقوق، كالحق في الاختيار بين الإنجاب وعدم الإنجاب، والحق في الإجهاض. فرضت هذه المطالب نفسها تحت تأثير عاملين أساسيين وهما: مخاطر الوضع التي تزيدها الأعراف تعقيدا، من جهة، والانفتاح على الطب الحديث الذي يتيح للمرأة إمكانية تنظيم الأسرة بما يضمن صحتها ومصالحها، من جهة أخرى. ويظهر من خلال تحليل حالة تميمونت، أن اكتشاف نمط عيش جديد ربما كان هو العامل الأساسي الذي هيأ الأرضية لتنامي طموحات المرأة وإطلاق العنان للرغبة في النمو الشخصي والاستقلال والحرية. كان هذا العامل يعمل في الخفاء بعيدا عن لغط الدوائر السياسية التي كانت تعمل بدورها خلف جدار الصمت لتأجيل مثل هذه المطالب إلى أجل غير مسمى.

 

[i] Crapanzano Vincent. «the Hamadsha». In Nikki R Deddie. Scholars, saints and sufis : Muslim

  religious institutions since 1500. University of California Press : USA, 1972, pp. 327-348.

 

 

 

Partager cet article
Repost0
26 avril 2012 4 26 /04 /avril /2012 20:58

مفهوم الدولة عند إميل دوركايم

أحمد أغبال

 تصور دوركايم للسياسة

ليست السياسة، في نظر إميل دوركايم، واقعا قائما بذاته في استقلال عن المجتمع، بل هي من صميم التمثلات الجمعية. ومما يدل على ذلك، في نظره، أن الاشتراكية بوصفها تيارا من التيارات السياسية المعاصرة، إنما هي واقعة من وقائع الرأي العام أو شكلا من أشكال الفعل الإنساني الذي يرمي إلى تحقيق مثل أعلى يتمحور حول قيم العدالة الاجتماعية والمساواة. إنها بهذا المعنى تصور سياسي لما ينبغي أن يكون عليه الواقع، أو حلم من أحلام الروح الجمعية. إنها بعبارة أخرى شكل من أشكال التمثلات الجمعية.

إن التصورات السياسية هي من جملة التمثلات الجمعية، تشترك معها في بعض الخصائص، وتتميز عنها بخصائص أخرى. تتميز التمثلات الجمعية بكونها ضرورية بحكم ارتباطها الوثيق بالمحيط الاجتماعي وبنيته الأساسية؛ فلا وجود لمجتمع بدون تمثلات مشتركة. وعلى الرغم من كونها شديدة الصلة بالواقع، فإنها تحتفظ لنفسها بنوع من الاستقلال. وتتميز أيضا بما تنطوي عليه من قوة الإكراه والإلزام. تنطبق هذه الخصائص على السياسية أيضا بوصفها واقعة من الوقائع الاجتماعية. ولذلك اعتبرت شكلا من أشكال التمثلات الجمعية. وبوصفها كذلك، فإنها لا تعدو أن تكون مجرد وهم من أوهام الضمير الجمعي.

يعتقد الناس ويتوهمون أن للحاكم قوة أو سلطة مطلقة، ويعتقد الحاكم أن للسلطة المركزية من القوة ما يجعل تأثيرها يسري في هيكل المجتمع بأسره. ويعتقد عامة الناس أن لبعض الأشخاص قدرة خارقة للعادة، ويضعون فيهم ثقتهم، ويقعون تحت تأثيرهم بسبب معتقداتهم. ذلك لأنهم يتصورون السلطة من خلال الأشخاص الذين يمثلونها ويجسدونها في ظروف تهيأت لهم فيها الفرصة للأخذ بزمام المبادرة. وبسبب نجاحهم النسبي في ظروف معينة، أضفت عليهم العامة هالة من القداسة، ونسبت إليهم القدرة على التأثير في مجريات الأحداث والقدرة على صنع التاريخ. وما هي في الحقيقة إلا تمثلات وأوهام. تبدو السياسة، من وجهة نظر دوركايم، على أنها جملة من التمثلات الناشئة عن التفاعل بين طرفي معادلة السلطة، وهما الحاكم والمحكوم. ينشأ هذا الوهم عن عدم قدرة الناس على فهم حقيقة الدولة بوصفها مجموعة متميزة من الموظفين في المقام الأول. ولما لم يفهموا هذه الحقيقة، حولوا الدولة في أذهانهم إلى كيان مفارق للمجتمع يتحكم في إرادتهم ويوجهها وفقا لغاياته الخاصة. ومع ذلك، يبقى هذا الوهم ضروريا لاشتغال المجتمع وتنظيمه. وليس العلم بقادر على تبديد هذا الوهم الضروري.

ومن هنا يمكن تعريف السياسة بأنها الوهم الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي، إنها التمثلات التي تنظم المجتمع. يمكن القول بعبارة أخرى، إن السياسة هي تجسيد للتمثلات الجمعية في مرحلة من مراحل تطور المجتمع. ويلزم عن هذا القول إنه كلما تغيرت التمثلات الجمعية أدى ذلك إلى حدوث تغير في مؤسسات الدولة.

وإذا كانت السياسة من جملة التمثلات الجمعية، فإنها تتصف بمجموعة من الخصائص التي تنفرد بها وتميزها عن التمثلات الجمعية للمجتمع الكلي. تتميز التمثلات الجمعية، التي يطلق عليها دوركايم أحيانا "الحياة النفسية"للمجتمع الكلي، بكونها هلامية،غامضة وغير منظمة. تبدو الحياة النفسية للمجتمع كما لو كانت تلقائية، أوتوكاتيكية لاإرادية، ولا شعورية إلى هذا الحد أو ذاك. تنتقل عناصر الحياة النفسية الجماعية أو التمثلات الجمعية بين الأفراد الذين يشكلون الجماعة السياسية، وتنتشر في الأوساط التي تتولى مهمة إضفاء الطابع المؤسساتي على أنماط معينة من السلوك والتعامل. ومن خلال التفاعل بين المجتمع الكلي والدولة تتشكل حياة نفسية داخل مؤسسات الدولة. وتتميز الحياة النفسية التي تسكن الجهاز الحكومي بكونها عقلانية، منظمة، وعلى قدر كبير من الوعي. ذلك لأن أعضاء الحكومة لا يتخذون قراراتهم إلا من خلال سلسلة من النقشات والمداولات والتحليل والتمحيص. ومن خلال هذه العمليات تتشكل الحياة النفسية للدولة على أساس عقلاني. والفرق بينها وبين الحياة النفسية للمجتمع الكلي كالفرق بين وعي الفرد ولاشعوره. تشتغل الحياة النفسية للمجتمع بطريقة أوتوماتيكية لاإرادية ولاشعورية، تتحكم فيها التقاليد والأعراف؛ وأما الحياة النفسية للدولة فهي متعقلة، تفكر وتناقش وتتخذ القرارات عن وعي وروية. وفي ذلك يقول دوركايم: "إن التداول والتفكير خاصيتان من خصائص ما يجري داخل الجهاز الحكومي"[1].

ومع ذلك، فإن الحياة النفسية للمجتمع والحياة النفسية للدولة ترتبطان مع بعضهما البعض في علاقة لا تنفصم، وتتفاعلان بشكل يجعل كل واحدة منهما تغذي الأخرى، وتتبادلان التأثير فيما بينهما. إنهما في حوار لا ينقطع. في إطار عملية التفاعل المتبادل هذه، تبدو قرارات الدولة وأنشطتها كما لو كانت عبارة عن ردود أفعال إزاء توقعات المجتمع. فالحكومة تحاول أن تبدو كما لو كانت تستجيب من خلال قراراتها لمطالب المجتمع. وأما مطالب الأفراد المعزولين، فإن الدولة لا تعيرها أي اهتمام، ولا تهتم بها إلا إذا اتخذت شكلا منظما إلى هذا الحد أو ذاك.

 وهكذا، فإن ما كان يبدو للوهلة الأولى على أنه العقل المدبر، أصبح الآن عقلا مشتركا يتخذ القرارات بناء على موازين القوى بين طرفي عملية التفاعل (المجتمع المدني والدولة). غير أن ذلك لا يلغي الدور المركزي للدولة فيما يتعلق بتدبير الشأن العام. ولكن هذا الدور لا يبرر انفراد الدولة بالقرار. وما أن تستفرد الدولة بالقرار حتى تجلب عليها غضب المجتمع. ذلك لأن قوة الدولة أو ضعفها إنما يتحددان وفقا لطبيعة التصورات المشتركة أو التمثلات الجمعية؛ وتتحدد هذه التمثلات بدورها من خلال عملية التفاعل بين المجتمع المدني والدولة. بل إن التفاعل بين الطرفين يجري في نطاق التمثلات الجمعية التي تضفي على البعد السياسي للمجتمع معناه ودلالته، وتجعل منه كيانا يشتغل بطريقة متميزة. وقد يؤدي التغير في التمثلات الجمعية أو الرأي العام إلى حدوث أزمة سياسية عميقة أو تغير جذري في نظام الحكم. وقد يحدث التغير عندما ينعدم التوافق بين ما يتوقع كل طرف من الطرف الآخر.

وإذا كان كل نشاط سياسي يتحدد بموازين القوى بين طرفي عمليتي التفاعل، فإن ذلك لا يلغي دور الدولة بوصفها الفاعل المحتكر لما يسميه ماكس فيبر بحق استعمال العنف المشروع. سوف نحاول فيما يلي بيان مصدر قوة الدولة وضعفها ومشروعيتها وفقا لنظرية دوركايم.

 الوظائف الاجتماعية وبعدها السياسي حسب نظرية دوركايم

لنتذكر أن دوركايم قد جعل من الإكراه خاصية ملازمة لكل واقعة اجتماعية. في كتابه "حول التقسيم الاجتماعي للعمل" يطرح دوركايم المسألة المتعلقة بطبيعة الجريمة ووظيفة العقاب في المجتمع. عندما يرتكب فرد ما جريمة شنيعة في حي من أحياء المدينة، مثلا، يثير ذلك سخط السكان، ويفصحون عن مشاعر مشتركة إزاء ذلك الحدث المؤلم، ويتشكل موقف مشترك ومتميز، ويتخذ شكل شعور جمعي أو عمومي قائم بذاته في استقلال عن شعور كل فرد مأخوذ على حده؛ إنه "السخط العمومي" «la colère publique »، حسب تعبير دوركايم، ذلك الانفعال الجمعي الذي يمتزج فيه سخط الفرد بسخط غيره من أفراد المجموعة البشرية التي ينتمي إليها ليشكل قوة تتجاوزهم جميعا وتفرض عليهم منطقها الجمعي المتميز. إنها التمثلات الجمعية في حالة غليان. نجد مثل هذه الانفعالات الجمعية عند الحشود. وقد يتحول الأفراد الوديعون ذووا المزاج الهادئ المسالم إلى قوة عنيفة عندما يجتمعون، فيخضعون في سلوكهم لمنطق دينامية الجماعة، ويتحولون بالتالي إلى قوة عنيفة. هكذا يؤدي التفاعل بين الأفراد إلى تشكل تمثلات جديدة تتمتع بقوة خاصة مستقلة عن كل فرد مأخوذ على حدة، ولا يجد الفرد مناصا من الخضوع لها. والنتيجة هي أنه لا وجود للفرد المستقل بذاته تماما عن الحياة النفسية للجماعة، ولا يمكنه الإفلات تماما من قبضة التمثلات الجمعية. إن هذه التمثلات هي القوة الأساسية التي تأجج انفعالات الفرد وتخرجه من ذاته، وتجعله تابعا للجماعة، خاضعا لنفوذها وإكراهاتها. إن قوة التمثلات الجمعية هي العامل الأساسي الذي يفسر، في نظر دوركايم، ظواهر الجريمة والعقاب في المجتمع. إن الجريمة، من وجهة النظر هذه، هي الفعل الذي يلحق الأذى بما يسمى "الضمير الجمعي". يتمثل هذا الأخير في "رد الفعل الانفعالي الذي يتحقق بدرجات متفاوتة [حسب خطورة الفعل المرتكب] والذي يمارسه المجتمع بواسطة كيان مؤسساتي على الأفراد الذين قاموا بخرق بعض قواعد السلوك"[2]. وينشأ رد الفعل هذا عن وجود تصور جماعي لما هو مشروع ومباح. وفي غياب هذا التصور لن يكون للعقاب معنى.

إن العقاب القانوني هو المؤشر الدال على ظواهر الجريمة المعترف بها على مستوى المجتمع الكلي؛ ويمثل تحليل دوركايم لهذا النوع من العقاب خطوة حاسمة في اتجاه بناء السياسة كموضوع لعلم الاجتماع. ويؤكد هذا التحليل الدور السياسي الذي تلعبه التمثلات الجمعية من حيث أنها تمتلك من قوة الإكراه ما يلزم الأفراد، في الفترات العادية على الأقل، على الامتثال والخضوع للنظام العام، وتصب جام غضبها على كل سلوك منحرف، وتنزل العقوبة على مرتكبه. ولما كانت التمثلات الجمعية هي الأساس الذي تقوم عليه التنشئة الاجتماعية التي تفرض من خلالها على الطفل قواعد المجتمع ومعاييره، وتجعله منه كائنا يخضع للنظام الاجتماعي القائم، أمكن القول بأنها مصدر كل إكراه سواء اتخذ شكلا اجتماعيا أو سياسيا. ومن الوظائف التي تضطلع بها التمثلات الجمعية أيضا أنها تحدد المقدار الكافي من الامتثال الضروري لقيام المجتمع والحفاظ على توازنه. في المجتمعات المتطورة، تنتظم هذه التمثلات في إطار أجهزة ومؤسسات من أجل أداء هذه الوظائف بأكبر ما يمكن من الفعالية. ومما يترتب عن ذلك أن السلطة هي من صميم الآليات التي يستعملها المجتمع لمراقبة ذاته. ينتج كل مجتمع، مهما كان مستوى تطوره، معايير وقواعد وآليات لمراقبة مدى احترام الأفراد لتلك القواعد. وهذا ما عبر عنه دوركايم في كتابه "الانتحار" بقوله: "المجتمع سلطة تنظم الأفراد"[3]. في كتابه "الأشكال الأولية للحياة الدينية" قدم لنا دوركايم شرحا وافيا للدور الذي تلعبه التمثلات الجمعية في الحفاظ على النظام. يقول بالحرف الواحد:

«Les manières d’agir auxquelles la société est assez fortement attachée pour les imposer à ses membres, se trouve, par cela même marquées du signe distinctif qui provoque le respect. Parce qu’elles sont élaborées en commun, la vivacité avec laquelle elles sont pensées par chaque esprit particulier retentit dans tous les autre et réciproquement. Les représentations qui les expriment en chacun de nous, ont donc une intensité à laquelle des états de conscience purement privés ne sauraient atteindre: car elles sont fortes des innombrables représentations individuelles qui ont servi à former chacune d’elles. C’est la société qui parle par la bouche de ceux qui les affirment en notre présence : c’est elle que nous entendons en les entendant et la voix de tous a un accent que ne saurait avoir celle d’un seul. La violence même avec laquelle la société réagit par voie de blâme ou bien de répression matérielle, contre les tentatives de dissidence, en manifestant avec éclat l’ardeur de la conviction commune, contribue à en renforcer l’empire»[4]

وما يستفاد من هذا القول أن لكل مجتمع معتقدات مشتركة، ويعمل كل شيء فيه على دعم نفوذ هذه المعتقدات التي تدعمها عمليات التفاعل الاجتماعي وتزيدها قوة. ومن المفارقات أن كل محاولة للمساس بها وخرقها تزيد من قوتها بسبب ردود الفعل التي تولدها. وهكذا يساهم الرأي المشترك أو العمومي في الحفاظ على النظام القائم واستمراره، بحيث يمكن القول بأن أصل النظام هو الرأي العام، وأن وظيفة الرأي العام هي الحفاظ على النظام.

ينطبق هذا التحليل أيضا على المجتمعات التي تتوفر على جهاز الدولة. في كتابه "حول التقسيم الاجتماعي للعمل" انكب دوركايم على دراسة وظائف الدولة ودورها في الحياة السياسية من خلال تحليل وظيفة العقوبة القانونية. وتبين له أن للدولة وظيفتان أساسيتان: تتجلى إحداهما من خلال الحياة النفسية للدولة التي تعكس الحياة النفسية للمجتمع الكلي. والمقصود بذلك أن وظيفة الدولة تكمن في إعادة صياغة ما تنطوي عليه المشاعر الجماعية بشكل ضمني من أوامر ونواهي صياغة شكلية، وينظمها حسب أهميتها بشكل عقلاني ومتراتب، مما يجعل العقوبة تتناسب مع خطورة الانحراف. ويكون من نتائج ذلك ازدياد ولاء الأفراد للدولة عندما تكون عادلة في تطبيعها للقانون مراعية لمدى تناسب العقوبات مع درجة خطورة الانحراف عن القواعد والمعايير التي يفرضها الضمير الجمعي. يبدو وكأن المجتمع يضع مشاعره الجماعية بين يدي الدولة ويفوض لها حق ترجمتها إلى قوانين والسهر على تنفيذ مقتضياتها نيابة عنه. وبذلك تضطلع الدولة بحق ممارسة العنف المشروع: تعاقب، وتسجن، وتقتل من خلال تطبيق أحكام الإعدام. وهكذا اكتسبت الدولة وظيفة القمع الاجتماعي إلى جانب وظيفتها التأسيسية المتمثلة في ترجمة ما تنطوي عليه التمثلات الجمعية من قواعد ومعايير إلى قوانين وأحكام.

لقد تشكلت سلطة الدولة كنتيجة للعمليات التنظيمية التي كانت الجماعات البشرية في حاجة إليها كلما ازدادت كثافتها السكانية، وكلما ازداد تعقيدها بسبب التقسيم الاجتماعي للعمل. والحقيقة أن كل جماعة بشرية مهما كان مستوى تطورها تتوفر على نظم للضبط تكون في البداية محايثة لكينونتها وغير متميزة عن المجتمع الكلي. إن رئيس القبيلة أو شيخها في المجتمعات البدائية لا يوجد بينه وبين من يخضعون لسلطته فرق كبير، فهو يوجد على مسافة قريبة منهم. ومع تفكك النظام القبلي، وازدياد عدد السكان ظهر الميل إلى تمركز السلطة في إطار تنظيمي متميز عن المجتمع الكلي. ومع ظهور الدولة، اتسع مفهوم السياسة ليشمل إلى جانب التمثلات الجمعية الدولة وموظفيها، ونظم الحكم كالنظام الملكي، والأرستقراطي، والديمقراطي، وكذا الفئات التي تدعم نظام الحكم القائم والفئات التي تعارضه. ويمثل البعد التنظيمي في السياسة الجوانب المتعلقة بالمؤسسات والتشريعات أو ما يسميه دوركايم نمط الوجود السياسي manière d’être في مقابل أسلوب العمل السياسي manière de faire. يعكس هذا التمييز بين مستوى الوجود ومستوى الفعل تصور دوركايم لمستويات النظام الاجتماعي الذي ميز فيه بين المستوى المادي (الأساس المادي للمجتمع) ومستوى البنيات الشكلية (القوانين والتشريعات) والمستوى اللامادي (التمثلات الجمعية).

ويكتسي الميل إلى إضفاء الطابع الشكلي على آليات الضبط المرتبطة بالضمير الجمعي أهمية بالغة في تفسير دوركايم لنشوء المؤسسات السياسية كما سبقت الإشارة إلى ذلك. لقد أصبحت القوانين التي تحدد ما يجب وما لا يجب فعله تتمتع بوجود فعلي أشبه ما يكون بالأساس المادي للمجتمع عندما اتخذت طابعا شكليا صريحا، تفرض وجودها على الأفراد بنفس القوة التي تفرض القوى المادية نفسها عليهم. ولكنها قابلة للتطور والتغير: فما كان محظورا في الماضي قد يصبح مباحا في فترة لاحقة، وما كان يعتبر جريمة شنيعة قد يصبح مجرد جنحة صغيرة. ونظرا لكونها قابلة للتغير فإنها اقرب ما تكون إلى التمثلات الجمعية التي تخضع بدورها للتطور والتغير. وهكذا أدرج دوركايم البنيات الشكلية (القوانين المنظمة للعلاقات الاجتماعية) ضمن تصوره للنظام الاجتماعي الذي تحتل فيه مرتبة وسيطة تقع بين الأساس المادي للمجتمع وبنائه الفوقي المتمثل في التمثلات الجمعية. يطلق دوركايم على البنيات الشكلية اسم التنظيمات أو المؤسسات؛ يقول بهذا الصدد:

"هناك كلمة تعبر بشكل جيد عن هذا النمط من الوجود المتميز جدا، وهي كلمة مؤسسة. وفي الواقع، يمكننا، دون أن نشوه مدلول هذه العبارة، أن نطلق اسم مؤسسة على جميع المعتقدات وجميع أنماط السلوك التي قامت الجماعة بمأسستها"[5]

 

 ولذلك تعتبر الدولة في نظر دوركايم مؤسسة سياسية بامتياز. وقد فرضت هذه المؤسسة نفسها عندما بلغ المجتمع درجة من التطور والتعقيد فقدت معها آليات الضبط التقليدية فعاليتها. يقول دوركايم: "إنه بمجرد أن بلغت المجتمعات السياسية درجة معينة من التعقيد، لم يعد بإمكانها أن تشتغل بشكل جماعي [لأداء وظيفة الضبط الاجتماعي] إلا من خلال تدخل الدولة"([6]). وفيما يلي عرض مفصل حول تصور دوركايم للدولة ومؤسساتها بناء على ما ورد من تحليلات في المقالة التي اقتبس منها هذا الاستشهاد.

 مفهوم الدولة عند دوركايم

يرى دوركايم أن مفهوم الدولة هو من جملة المفاهيم الفضفاضة التي كثيرا ما تستعمل من غير أن يتم تحديد مضمونها بدقة. فهو يستعمل تارة للدلالة على المجتمع السياسي في كليته، ويستعمل تارة أخرى للدلالة على جزء معين من ذلك المجتمع. وحتى في الحالة التي يستعمل فيها بالمعنى الثاني فإن حدوده قد تتسع لتشمل العديد من المؤسسات دون تمييز. فقد يشمل مفهوم الدولة الكنيسة، والجيش، والجامعة وغيرها من المؤسسات العمومية التي تندرج في تكوين الدولة. ولكن تصور الدولة على هذا النحو قد يؤدي إلى الخلط بين نوعين مختلفين من التنظيمات وهما مؤسسات القضاء والجيش والجامعة من جهة، ومؤسسة الدولة بمعناها المتميز، من جهة أخرى. ولذلك لزم التفريق في نظره بين هيئات المهندسين والأساتذة والقضاة وبين مجلس الحكومة، والمؤسسة التشريعية، والوزارات، ومجلس الوزراء والمصالح التابعة لهذه الهيئات الحكومية. ويخلص دوركايم إلى حصر مفهوم الدولة في الهيئات الاجتماعية التي يحق لها التكلم باسم المجتمع الكلي. فعندما تتخذ الحكومة قرارا، أو يصوت البرلمان على قانون، فإن المجتمع كله يكون معنيا بالقرارات والقوانين الصادرة عن مختلف أجهزة الدولة، بمعنى أن هذه القرارات والقوانين تكون ملزمة للجميع. وأما المصالح الإدارية فإنها عبارة عن أجهزة وهيئات ثانوية تقع تحت سلطة الدولة؛ وبالتالي فإنها ليست جزءا من كيانها الذي يتميز عنها بطبيعة الوظائف التي يؤديها. ومن هنا يمكن القول بأن مفهوم الدولة مرادف لمفهوم المجتمع السياسي. ذلك أنه عندما يبلغ المجتمع السياسي درجة معينة من التعقيد يصبح عاجزا عن مزاولة نشاطه التنظيمي، ولا يستطيع بالتالي أداء وظيفته إلا من خلال جهاز الدولة التي تتكفل نيابة عنه بوظيفة الضبط الاجتماعي.

وتكمن وظيفة الدولة، حسب دوركايم، في إحلال التفكير العقلاني في المجتمع وتنظيمه بطريقة عقلانية. وتزداد أهمية التفكير العقلاني في المجتمع كلما نمت الدولة وتطورت. وليس يعني ذلك أن الدولة هي السبب في وجود الروح الجماعية وانتشارها في الجسم الاجتماعي، ذلك لأن التاريخ يشهد على وجود مجتمعات سياسية بدون دولة. إن ما يجعل التماسك الاجتماعي ممكنا هي المعتقدات المشتركة التي تحرك الأفراد بشكل غامض ولاشعوري تقريبا، وتجعل منهم كتلة واحدة هي عبارة عن حشد دائم يتحرك بطريقة غير واعية تماما، تحركه قوة انفعالية غالبا ما تقع خارج دائرة الوعي الفردي مما قد يجعل من الحشد قوة عنيفة ومدمرة. ويرجع السبب في ذلك إلى عدم توفر الحشد على مركز يستقبل تلك القوى العمياء ويتفكر فيها ويعقلنها قبل أن تقدم على فعل غير محسوب العواقب. وهنا بالضبط يكمن دور الدولة المتمثل في التحكم العقلاني في انفعالات المجتمع.

تكمن وظيفة الدولة، إذن، في توجيه الضمير الجمعي في الاتجاه الصحيح. لأن غياب مركز القرار العقلاني قد يؤدي إلى تصريف القوة الانفعالية المرتبطة بالضمير الجمعي أو الحشد بشكل عشوائي مدمر بسبب طبيعتها غير العقلانية. وقد يحصل ذلك عندما ينشب خلاف في المجتمع ويكون جهاز الدولة ضعيفا غير قادر على معالجة أسباب الخلاف بطريقة عقلانية، مما قد يؤدي إلى نشوب حرب أهلية تأتي على الأخضر واليابس. أما إذا كانت الدولة قوية وعقلانية، فإنها ستطرح القضايا الخلافية على طاولة التداول والنقاش، وتتخذ القرار المناسب الذي يرضي الجميع. تلك هي وظيفة الدولة ومبرر وجودها في المجتمعات المعقدة. إن ما يسمح للدولة بالاضطلاع بهذه المهمة هو موقعها المركزي الذي تتقاطع عنده كل المصالح ويجعل منها كيانا محايدا بالنظر إلى كل طرف من الأطراف المتنافسة في المجتمع. ونظرا لموقعها المركزي والمحايد في المجتمع تستطيع الدولة أن تدرك مدى تعقد الوضعيات التي تنشأ عن التفاعل بين مختلف التوجهات الاجتماعية، وتستحضر في معالجتها للقضايا الخلافية ما غاب عن إدراك كل طرف من الأطراف المتنافسة. وبذلك يمكنها الوصول إلى حلول مرضية ما كان من الممكن أن تخطر ببال القوى المتصارعة.

إن الدولة بهذا المعنى هي العقل المدبر؛ إنها العقل وقد حل محل القوة الانفعالية الغامضة. وهذا ما يفسر طبيعة الدساتير التي تتشكل الدولة على أساسها والتي تكمن وظيفتها في إحلال منطق التداول العقلاني والمعقول محل السلوك الانفعالي الأحادي الجانب. وهذا ما يفسر ظهور مجالس الحكومة إلى جانب الحاكم الذي يمثل الدولة. تكمن وظيفة هذه المجالس في التداول حول مختلف المشاريع المقترحة قبل تنفيذها. ولتكون هذه المشاريع مقبولة في المجتمع، كان لابد أن تضم المجالس ممثلين عن مختلف التوجهات الموجودة في المجتمع، بحيث يمكن لمختلف المشاعر الهلامية الغامضة التي يزخر بها المجتمع أن تفصح عن نفسها داخل المجالس الحكومية.

ويميز دوركايم في أنشطة الدولة بين نوعين: نشاط موجه نحو الخارج وآخر موجه نحو الداخل. يتميز النشاط الأول بكونه عنيف وعدواني، ويتميز الثاني بكونه مسالم وأخلاقي. هذا من حيث المبدأ. ولكن الأهمية التي يكتسيها هذا النشاط أو ذاك اختلفت باختلاف المراحل التاريخية التي مرت بها المجتمعات البشرية. في المراحل السابقة من تاريخ المجتمعات البشرية، كانت الغلبة للنشاط الموجه نحو الخارج على حساب النشاط الموجه نحو الداخل. كان الشغل الشاغل للدولة إلى عهد قريب هو توسيع نطاق حدودها لتضم أراضي جديدة وتبسط نفوذها على سكانها بالقوة. وكان الحاكم هو القائد الأعلى للجيش المهووس بالغزو، وكان الجيش هو وسيلته الأساسية في الحكم ما دام اهتمامه كله منصبا على الغزو. ويرى دوركايم أن الدافع إلى الغزو لم يكن ذا صلة بالمشكلات الاقتصادية التي يتخبط فيها البلد، بل كان يرتبط في المقام الأول بتصور الحكام للدولة. كانوا ينظرون إلى الدولة على أنها كيان واقعي قائم بذاته، موجود كشيء في ذاته، لا بوصفها أداة في خدمة المواطنين من أجل تحقيق العدالة، والتنسيق بين الأنشطة الاجتماعية، وتدبير الشأن العام بما يضمن التقدم والرفاهية للسكان. وبدل أن تكون الدولة وسيلة في خدمة المجتمع تحولت إلى غاية تستقطب جهود الأفراد وتسخر كل إرادة لدعمها وتقويتها أكثر فأكثر، حتى تحولت إلى قوة مستبدة تقهر إرادة المجتمع.

وعندما تأخذ الدولة طابعا عسكريا واستبداديا، تنشغل بالحروب، ولا تولي أهمية كبيرة للوظيفة المتجهة نحو الداخل والمتمثلة في تدبير الحياة الخلقية للمجتمع في اتجاه تحقيق مزيد من الرفاهية والعدالة. وعندما تكون الأولوية في الدولة للوظيفة المتجهة نحو الخارج يتم اختزال القانون إلى ما ترغب فيه الدولة وترتضيه بمعزل عن إرادة المجتمع. ويرى دوركايم أنه كلما تقدم المجتمع ازدادت أهمية الوظيفة المتجهة نحو الداخل على حساب الوظيفة المتجهة نحو الخارج. فبينما كان النشاط العسكري هو النشاط المهيمن في سلوك الدولة خلال المراحل السابقة، أصبحت الأنشطة القانونية والتنظيمية تحتل مكان الصدارة في المراحل اللاحقة، حتى إن الحروب أصبحت تمثل حالات استثنائية، بينما كان الاهتمام بالأنشطة القانونية والتنظيمية في الماضي هو الذي يمثل الحالة الاستثنائية. هكذا يتصور دوركايم تطور الدولة. يتجلى هذا التطور في تزايد حجم التشريعات والقوانين الجديدة. ذلك لأن تطور المجتمع، وازدياد درجة تعقيده بسبب التقسيم الاجتماعي للعمل الذي يفرز باستمرار نظما وظواهر جديدة، يستلزم سن قوانين جديدة. يتجلى ذلك من خلال التطور الهائل الذي عرفته الترسانة القانونية. فقد شمل التطور والتغير قانون الأحوال الشخصية، وقانون التجارة والصناعة، وقانون العقود والالتزامات وما إلى ذلك من القوانين التي تنظم مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، والتي لم يسبق للكثير منها أن وجدت من قبل.

وخلاصة القول: إنه كلما تطور المجتمع وخطى خطوة إلى الأمام إلا وتطورت معه مؤسسات الدولة، وازدادت حقوق المواطنين، واتخذت العلاقات الاجتماعية طابعا أكثر عدالة. ولقد أصبحت العدالة تحتل مكانة مرموقة في المجتمعات الحديثة، وأصبح مقياس تقدمها مرتبطا بمدى احترام حقوق الفرد؛ لأن العدالة هي، قبل كل شيء، إعطاء الفرد الحقوق التي يضمنها له القانون. والملاحظ، حسب دوركايم، أن حقوق الفرد قد ازدادت في المجتمعات الحديث واتخذت طابعا اجتماعيا، حتى إن الفرد أصبح قيمة في ذاته، يحاط بهالة من القداسة، يقول دوركايم:

"فبينما لم تكن للشخص أية قيمة في البداية، أصبح اليوم الكائن المقدس بامتياز، يُحدث كل طعن في شرفه نفس الأثر الذي يحدثه الطعن في الآلهة لدى المؤمنين بها في الأديان البدائية"([7])

وأما ضامن هذه الحقوق فهي الدولة التي نظر إليها دوركايم على أنها "الهيئة المدنية للعدالة" «organe civil de la justice» . وأما ما يبرر ضرورة قيام الدولة بهذا الدور فهو أن المجتمع ينطوي على قدر كبير من التفاوت بين الأفراد والطبقات والفئات فيما يتعلق بامتلاك وسائل القوة والنفوذ الاقتصادية منها والاجتماعية والثقافية وما إلى ذلك. ولكي لا يطغى البعض على البعض الآخر ويهضم حقوقه، يحتاج المجتمع إلى هيئة محايدة ومستقلة ومتعالية عن المصالح الفردية والفئوية والطبقية، قادرة على فهم ضروريات العيش المشترك. وتقتضي العدالة أن تعمل الدولة على الحد من مطامع كل من يريد استغلال مقومات العيش المشترك من أجل تحقيق مصالحه الأنانية على حساب المصلحة العامة ومصالح غيره من المواطنين. ومن هنا تأتي الوظيفة الأخلاقية للدولة حسب دوركايم. ولكن ذلك لا يعني، في نظره، أن تنفرد الدولة بالقرار، وتفعل ما تشاء دون أخذ بعين الاعتبار توجهات الرأي العام. هذا مع العلم أن قوة الدولة مستمدة من قوة الضمير الجمعي، إنها القوة "المحايثة للضمير المشترك" حسب تعبيره[8] ولذلك لزم إخضاعها لمراقبة القوى الثانوية التي تخضع لنفوذها، وإلا تحولت إلى دولة استبدادية ذات سلطة مطلقة لا حدود لها؛ وبدل أن تكون أداة لتحقيق المساواة والعدالة بين المواطنين تصبح غاية في حد ذاتها. ويكون من نتائج ذلك فقدان الثقة في مؤسسات الدولة مما قد يؤدي إلى نزع المشروعية عنها.  ذلك لأن سلطة الدولة إنما نشأت كرد فعل إزاء توقعات الضمير الجمعي بوصفها سلطة مُفوَّضة تعبر عن إرادة الروح الجماعية. ولذلك يتوقع أن تسحب منها إذا استبدت برأيها ونصبت نفسها بوصفها قوة قائمة بذاتها.     

 

 

 

 

 

 

 



[1] Emile Durkheim (1969). Leçons de sociologie :physique des mœurs et du droit. Paris : PUF. Coll : Bibliothèque de la philosophie contemporaine, p. 96.

[2] Emile Durkheim(1963). Les règles de la méthode sociologique. Paris : PUF. Coll : Bibliothèque de la philosophie contemporaine, p. 64.

[3] Emile Durkheim (1967). Le suicide. Paris : PUF. Coll : Bibliothèque de la philosophie contemporaine, p. 264.

[4] Emile Durkheim (1968). Les formes élémentaires de la vie religieuse. Paris : PUF. Coll : Bibliothèque de la philosophie contemporaine, p. 297.

[5] Emile Durkheim (1963). Les règles de la méthode sociologique, op. cit. p. XXIL.

[6] Emile Durkheim. L’Etat. Texte extrait de la Revue philosophique, n° 148, 1958. Publication posthume d’un cours datant de 1900-1905. Edition électronique, p. 4 http://classiques.uqac.ca/classiques/Durkheim_emile/textes_3/textes_3_6/durkheim_Etat.pdf

[7] Emile Durkheim. L’Etat. Op. cit. p. 7.

[8] Emile Durkheim (1967). De la division sociale du travail. Paris : PUF. Coll : Bibliothèque de la philosophie contemporaine, p. 51.

Partager cet article
Repost0
16 novembre 2011 3 16 /11 /novembre /2011 10:22

علم النفس الأرسطي: قراءة في كتاب "النفس"

أحمد أغبال

لم يكن أرسطو فيلسوفا فحسب، بل كان عالما أيضا. عشق الطبيعة بكل أشكالها فراح يبحث في أسرارها من خلال الكشف عن مبادئها وقوانينها؛ وبدأ بتصنيف أنواع النباتات والحيوانات الموجودة في بلاده، وتعدى ذلك إلى الدراسة التشريحية للحيوان ولكيفية سلوكه في محيطه الطبيعي. وقاده اهتمامه بطبيعة الكائنات ومراتبها في الوجود إلى دراسة النفس التي تمثل عنده أرقى درجات الكمال، وخصص لهذا الموضوع كتابا تحت عنوان الذي يعتبر بحق أول مصنف ظهر في علم النفس، لاسيما وأن أرسطو قد أفرد لموضوع النفس مؤلفا مستقلا، وكأنما أراد بذلك أن يجعل منه موضوع علم قائم بذاته. وعرف موضوع هذا العلم بأنه "الظواهر المشتركة بين الجسد والروح".

لقد أراد أرسطو أن يجعل من النفس موضوعا لعلم خاص، وهو العلم الذي يبحث في طبيعة النفس وخواصها؛ ونظر إلى النفس على أنها مبدأ الحياة العام. ولذلك كان لابد أن يشمل موضوع هذا العلم عنده جميع الكائنات الحية على اختلاف مراتبها، بدءا بالنبات وصولا إلى الإنسان. ولذلك نجد في كتاب "النفس" وصفا دقيقا، بمعايير العصر الذي ينتمي إليه، للأنشطة التي تقوم بها الكائنات الحية من نبات وحيوان إلى جانب أنشطة الإنسان وسلوكه. ولذلك جاء موضوع علم النفس عند أرسطو عاما جدا وشاملا لكل ظواهر الحياة بما في ذلك طبيعة الحياة ذاتها. وهذا ما جعله مختلفا عن علم النفس الحديث أو المعاصر.

أثار أرسطو في كتاب "النفس" مجموعة من القضايا والإشكالات المتعلقة بطبيعة الظواهر السيكولوجية وعلاقتها بالبدن من جهة، وبالنفس أو الروح من جهة أخرى. ومن أمثلة ذلك قوله:

"وهناك مشكلة أخرى تتصل بأحوال النفس: هل تعم جميعها الكائن ذا النفس، أم أن بعضها يخص النفس ذاتها ؟ والجواب عن هذا السؤال ضروري ولكنه صعب. ويبدو أن النفس في معظم الحالات لا تفعل ولا تنفعل بغير البدن: مثل الغضب، والشجاعة، والنزوع، وعلى وجه العموم الإحساس. وإذا كان هناك فعل يخص النفس بوجه خاص فهو التفكير. ولكن إذا كان هذا الفعل نوعا من التخيل، أو لا ينفصل عن التخيل، فإن الفكر لا يمكن أن يوجد كذلك بدون البدن. وإذن، إذا كان هناك وظائف أو أحوال للنفس تخصها وحدها، فقد يمكن أن يكون للنفس وجود بدون الجسم. وعلى العكس، إذا لم يكن لها شيء من ذلك يخصها، فلن تكون النفس منفصلة عن الجسم... ويبدو أن جميع أحوال النفس توجد مع الجسم: كالغضب، والوداعة، والخوف والشفقة والإقدام، وأيضا الفرح والحب والبغض؛ لأنه عندما تحدث هذه الأحوال يتغير الجسم. ويظهر ذلك من أنه في بعض الأحيان تحدث فينا أسباب قوية وعنيفة توجب هذه الأحوال، دون أن يعقبها تهيج أو خوف، على حين أنه في بعض الأحيان الأخرى تؤدي أباب ضعيفة وقليلة الثر إلى حدوث هذه الآثار، إذا كان الجسم متهيجا، وفي حالة تشبه الغضب. وهناك دليل أكثر وضوحا: في غيبة كل سبب للخوف قد ننفعل انفعال الخوف. فإذا كان ذلك كذلك، فمن الواضح أن أحوال النفس صور حالُّةََ في الهيولى. ولذلك يجب أن يُنْزِلَ هذه الأمور عند النظر في حدها على هذا النحو، كأن يقول مثلا: إن الغضب هو حركة هذا الجسم، او هذا الجزء من الجسم، أو هذه القوة أو هذه القوة عن هذا السبب لهذه الغاية. ولذلك كان البحث عن النفس مما يختص به عالم الطبيعة سواء فيما يتصل بالنفس كلها، أو بأحوالها التي وصفناها. "

وإلى جانب الإشكالية العويصة المتعلقة بطبيعة الظواهر السيكولوجية وعلاقتها بالبدن، طرح أرسطو مشكلة المنهج المتعلق بدراسة هذه الظواهر الشديدة التعقيد. يقول بهذا الصدد:

"غير أن الحصول على معرفة وثيقة عن النفس أمر، على الإطلاق ومن كل وجه، شديد الصعوبة. ذلك أن هذا الفحص، لأنه يعم كثيرا من الأشياء (أعني البحث عن الجواهر والماهية) فقد يُظَنُّ أنه لا بوجد إلا منهج واحد ينطبق على جميع الأشياء التي نريد أن نعرف جوهرها (كما هو الحال في البرهان فيما يخص الصفات العرضية)، فيكون من الواجب أن نطلب هذا المنهج. ومن جهة أخرى إذا لم يوجد منهج واحد ومشترك للبحث في الماهية، فإن عملنا يصبح أكثر صعوبة، إذ ينبغي تحديد الطريق المتبع في كل حالة. ومع ذلك إذا كان من الواضح أن هذه الطريقة هي ضرب من البرهان أو القسمة أو حتى منهج أخر، فإنه يبقى بعد ذلك مشكلات وشكوك فيما يجب أن يبدأ منه بحثنا. لأن المبادئ تختلف باختلاف الأشياء المختلفة كالحال، مثلا، في الأعداد والسطوح" (ص. 4)

وهذا الطرح لمسألة المنهج السيكولوجي في علاقته بطبيعة موضوع البحث لا يختلف عما ذهب إليه رواد علم النفس المعاصر الذين اختلفت مناهج البحث السيكولوجي عندهم باختلاف أنواع الظواهر السيكولوجية كما يحددونها. ويختلف المنهج المعتمد لدراسة النفس عند أرسطو باختلاف كيفية تصوره لأحوالها: فإذا كانت أحوال النفس على صلة وثيقة بالجسد، وكانت النفس "لا تفعل ولا تنفعل بغير البدن"، حسب قوله، فإن دراستها ستصبح حينئذ جزءا من اهتمامات عالِم الطبيعة؛ وإذا كانت للنفس خواص تخصها، احتاج الباحث إلى منهج برهاني يقوم على مبادئ قبلية. ولا زالت مسألة المنهج السيكولوجي مطروحة على هذا النحو في الأزمنة المعاصرة. ولذلك اختلفت مناهج البحث السيكولوجي باختلاف تصورات الباحثين والعلماء للموضوعات التي يتناولونها بالدراسة والتحليل.

افترض أرسطو على غرار أستاذه أفلاطون وجود ثلاثة أنواع من النفس، وهي: النفس النباتية التي تمثل القوى الغاذية في الكائنات الحية؛ والنفس الحيوانية التي تنشأ عنها القدرة على الحركة الذاتية؛ والنفس الإنسانية التي تمثل القوى العقلية. ونظر إلى النفس في ضوء مقولاته الميتافيزيقية أحيانا، ومقولاته الفيزيائية أحيانا أخرى، واعتبرها مبدأ الوجود الفعلي للجسد الذي به يتحقق بوصفه كائنا له أهداف وغايات، ونظر إليها بوصفها الكمال الأول للجسد الذي ينطوي على الحياة بالقوة أو بالإمكان، يقول:

"إلا أن الآراء قد أجمعت على أن الأجسام هي قبل كل شيء الجواهر، وأن من بينها الأجسام الطبيعية لأنها مبادئ غيرها. وبعض الأجسام الطبيعية بها حياة، وبعضها لا حياة لها. ونعني بالحياة: أن يتغذى الكائن، وينمو، ويفسد بذاته. ويترتب على ذلك أن كل جسم طبيعي ذي حياة، فهو جوهر، ونعني بالجوهر هاهنا الجوهر المركب [من الهيولى والصورة]. وما دمنا نتكلم هاهنا عن جسم ذي صفة معينة، ونعني بهذه الصفة وجود الحياة في الجسم، فليس الجسم هو النفس، لأن الجسم الحي [أي الذي فيه نفس] ليس صفة لشخص، بل الأولى أنه هو نفسه حامل وهيولى، ويترتب على ذلك أن النفس بالضرورة جوهر بمعنى أنها صورة جسم طبيعي ذي حياة بالقوة. ولكن هذا الجوهر كمال أول لجسم له هذه الطبيعة. إلا أن الكمال الأول يقال على معنيين: فهو تارة كالعلم، وتارة كاستعمال العلم. ويظهر هاهنا أن النفس كمال أول كالعلم، لأن النوم كاليقظة، يقتضيان وجود النفس، من حيث إن اليقظة شيء شبيه باستعمال العلم، والنوم شبيه بوجود العلم دون استعماله. ولكن العلم في الفرد متقدم في النشوء على استعمال العلم. لهذا كانت النفس كمالا أول لجسم طبيعي ذي حياة بالقوة، نعني بجسم آلي [أو عضوي]"(ص. 42)

ولما كانت النفس كمالا أولا لجسم طبيعي، ونظرا لكونها أشبه ما تكون بالعلم قبل استعماله، فإنه يفترض أن يكون لها استقلال عن أفعالها. ومن هنا جاء تعريف أرسطو للنفس على أنها جوهر لجسم طبيعي ذي حياة بالقوةّ، وعرفها بقوله:

"والنفس علة ومبدأ الجسم الحي. وهذان اللفظان "علة" و "مبدأ" يقالان على معان كثيرة...فالنفس علة من حيث إنها أصل الحركة، وإنها غاية، وإنها كذلك جوهر الأجسام المتنفسة. أما إنها علة من جهة الجوهر، فهذا بين؛ لأن علة الكائن في كل شيء هو الجوهر. ولكن الحياة عند جميع الكائنات الحية، هي قوام وجودها. والنفس هي علة حياتها ومبدؤها. وأيضا فإن صورة الكائن بالقوة هي الكمال الأول. ومن الواضح أيضا أن النفس علة أيضا من جهة الغاية: فكما أن العقل يفعل من أجل شيء، فكذلك الطبيعة، وهذا الشيء غايتها. ولكن النفس هي مثل هذه الغاية في الحيوان، وهذا مطابق للطبيعة، لأن جميع الكائنات الطبيعية الحية آلات للنفس، والأمر في النبات كما هو في الحيوان. فالنفس، إذن، غايتها"(ص. 54-55)

وينطبق هذا على جميع الكائنات الحية من نبات وحيوان وإنسان. والمقصود بالجوهر هنا الصورة التي تنقل الكائن من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. وهكذا، فإن علاقة النفس بالجسد إنما تمثل حالة خاصة بالنظر إلى العلاقة العامة التي تربط الصورة بالهيولى في الميتافيزيقا الأرسطية.

وبالإضافة إلى اهتمامه بدراسة العلاقة العامة بين النفس والجسد في ضوء نظريته الميتافيزيقية ونظرية العلل الأربعة، خصص أرسطو عدة فصول من كتاب "النفس" لدراسة أحوال النفس أو القوى النفسية وعلاقة بعضها ببعض، ومنها القوى الغاذية، وملكات الإدراك الحسي والتفكير العقلي، والقوة الشهوانية أو الرغبة، وما إلى ذلك من القوى النفسية. ونقد جاءت مرتبة عنده حسب مراتب الكائنات الحية. نقرأ في كتاب النفس ما يلي:

"توجد جميع قوى النفس التي ذكرناها في بعض الكائنات، كما سبق أن قلنا، وليس في بعض الكائنات إلا بعض القوى، وبعضها الثالث ليس فيه إلا قوة واحدة فقط. والقوى التي عددناها هي: القوة الغاذية، والنزوعية، والحساسة، والمحركة، والمفكرة. وليس في النبات إلا القوى الغاذية فقط؛ وفي بعض الكائنات هذه القوة، وكذلك قوة الحس؛ وإذا كانت عندها قوة الحس فعندها طذلك القوة النزوعية، لأن النزوع يشمل الشوق، والغضب، والإرادة. ولكن الحيوانات عندها جميعا إحدى الحواس على الأقل، نعني اللمس. وحيث يوجد الإحساس يوجد كذلك اللذة والألم. وإذا وجدت هذه الأحوال في كائن وجد عنده الشوق، إذ أن الشوق هو طلب المُلِذ. وأيضا فإن جميع الحيوانات عندها الإحساس بالغذاء، لأن اللمس حاسة التغذي. ذلك أن اليابس والرطب، والحار والبارد من الأشياء، هي وحدها غذاء جميع الكائنات الحية. (وهذه الصفات تُدْرَكُ باللمس، على حين أن غيرها من المحسوسات، ليست كذلك إلا بالعرض)، لأن الصوت، واللون، والرائحة لا تساهم في التغذي. أما الطعم فهو احد موضوعات اللمس. ولكن الجوع والعطش من الشوق، فالجوع [شوق] لليابس والحار، والعطش للبارد والرطب. والطعم بنوع ما، يجمع بين هذه الصفات....ولنكتف الآن بالقول بأن الحيوانات التي عندها اللمس، عندها النزوع كذلك. أما أنها هل عندها تخيل فأمر يُشَكُّ فيه...وعند بعض الحيوان أيضا قوة الحركة، وعند بعضها الآخر قوة التفكير والعقل، كالإنسان مثلا، وأي كائن حي آخر، إن وجد، يكون من طبيعة مشابهة له، أو أرقى منه"(ص. 50-51)

يتبين من هذا النص أن الكائنات الطبيعية تختلف عن بعضها البعض من حيث مراتبها في الوجود ودرجات تطورها أو كمالها باختلاف عدد القوى النفسية التي تنطوي عليها. فالنبات ينطوي على قوة واحدة هي القوة الغاذية، ويتمتع الحيوان بالقوة الغاذية التي للنبات وبقوة الإدراك الحسي التي لا توجد عند النبات. ويشك أرسطو في أن تكون للحيوان قوة المخيلة، وإن كان يرجح أن يكون لها تخيل حسي، وأما التخيل المقترن بالروية فهو من اختصاص الحيوان العاقل. وأما الإنسان، فإنه يشتمل على هذه القوى كلها ويزيد عليها. ولذلك يعتبر أرقى الكائنات الطبيعية جميعا. بحيث يمكن القول: إن من يتمتع بالقدرة على التفكير العقلي، يتمتع أيضا بالقدرة على الإدراك الحسي وقوة الخيال، وكل من عنده قوة الإدراك الحسي، تكون عنده بالضرورة القوة الغاذية. والعكس غير صحيح، بمعنى أن وجود القوة الغاذية لا يستلزم بالضرورة وجود قوة الحس، كما أن هذه الأخيرة لا تستدعي بالضرورة وجود القوة العقلية. ولما كان الإدراك الحسي يحتاج في وجوده إلى القوة الغاذية، جعل أرسطو من القوة الغاذية موضوعا لعلم النفس، مثلها في ذلك مثل قوة الحس وقوة المخيلة وقوة التفكير العقلي والرغبات وغيرها من الانفعالات الأخرى. تبين الخطاطة التالية مراتب الكائنات الطبيعية كما يتصورها أرسطو.

أحوال النفس وملكاتها لدى مختلف الكائنات الحية

 ----------------------copie-1.JPG

يمكن القول في ضوء ما سبق إن ميدأ الحياة الأول يكمن في القوة الغاذية. وعلى هذا عرف أرسطو الحياة بأنها التغذي والنمو والنقصان بالذات. و"بناء على هذا المبدإ، إذن، يقول أرسطو، توجد الحياة في جميع الكائنات الحية"(ص. 46) سواء تعلق الأمر بالنبات أو الحيوان. ولذلك اعتبرها أرسطو "أول قوى النفس وأعمها"(ص. 53) ورأى أنها تؤدي وظيفتين: التغذي والتوالد. وتكتسي وظيفة التوالد أهمية قصوى لدى جميع الكائنات الحية، "لأن أقرب الوظائف من الطبيعة لكل كائن حي كامل ليس بناقص...هو أن يخلق كائنا آخر شبيها به...بحيث يشارك في الأزلي والإلهي بحسب طاقته. لأن هذا هو موضوع النزوع لجميع الكائنات، وغاية نشاطها الطبيعي"(ص. 56-57)

وأما بخصوص الحيوان، فإن الأساس الذي يقوم عليه تكوين فهو الإحساس. يشترك الإنسان مع النبات في القوى الغاذية، وترتبط عنده هذه الأخيرة بالقوة الحساسة، بينما توجد القوة الغاذية عند النبات في استقلال عن للقوة الحساسة أو مفارقة لها. ويعتبر اللمس، في نظر أرسطو، أول قوى الحس في الحيوان. وأما الإنسان، فإن مبدأ وجوده كإنسان، فهو العقل. وأما النفس، فهي ما به تؤدي الكائنات الحية وظائفها (التغذي، والإحساس، والتفكير...).

وإذا كان الإدراك الحسي هو ما يميز الحيوان عن النبات، فإن ملكة الحس لا يكون لها وجود عنده إلا بالقوة؛ ولا تنتقل إلى الوجود بالفعل إلا بعد أن تنفعل بالمحسوس الذي يكون له وجود بالفعل. فالرؤية لا تتحقق إلا إذا كان هناك موضوع قابل للإبصار، أي له خصائص تجعله قادرا على التأثير في حاسة البصر، وينقل إليها صورته؛ فهو بلغة عصرنا هذا يلعب دور المنبه، وهو ما عبر عنه أرسطو بقوله: "..إلا أن ملكة الحس هي بالقوة، كما أن المحسوس هو بالفعل.. فهي تنفعل إذن من حيث إنها ليست شبيهة، حتى إذا انفعلت أصبحت شبيهة بالمحسوس، واتصفت بوصفه"(ص. 63) لا يتحقق الإدراك الحسي إذن ما لم تتوفر جملة من الشروط: فلا يمكن لكائن أن يدرك موضوعا ما إلا إذا (1) كان ذلك الكائن يتمتع بالقدرة على الانفعال بالموضوع، بمعنى أن تكون له القدرة على استقبال الصورة المحسوسة لذلك الموضوع (2) وكان الموضوع مهيأ لأحداث فعل أو تأثير في الإحساس، فيمده بصورته (3) والنتيجة هي أن قوة الحس عند الكائن تتوحد مع صورة الموضوع المُدْرَك وتنتقل إلى الوجود بالفعل. يسري هذا القانون على الإدراك العقلي أيضا. فالذات العارفة تحتاج لكي تتعقل موضوعا ما إلى (1) أن تكون لها القدرة على استقبال الصورة المعقولة للموضوع (2) وأن يكون الموضوع مهيأ لإمداد الملكات العقلية للذات العارفة بالصور التي تحتاج إليها (3) ويكون من نتائج ذلك أن بنية العقل الفردي تتوحد مع بنية الصور العقلية. يتحقق الإدراك الحسي، إذن، عندما تتشكل بنية ملكة الحس وفقا لبنية المحسوس أو صورته. وكذلك تتحقق المعرفة العقلية عندما تتخذ بنية العقل شكل بنية الموضوع، أي عندما تتوحد بنية الذات العارفة مع بنية موضوع المعرفة، وهو ما عبر عنه أرسطو بقوله: "والعلم من أحد الوجوه هو وموضوعه شيء واحد، كما أن الإحساس والمحسوس شيء واحد"(ص. 119) ويعود ليوضح بأن الأمر إنما يتعلق بصور الموضوعات لا بالموضوعات ذاتها، يقول:

"العلم والإحساس ينقسمان، إذن، بحسب موضوعاتهما، فالعلم بالقوة والإحساس بالقوة يقابلان الأشياء بالقوة، والعلم بالفعل والإحساس بالفعل يقابلان الأشياء بالفعل. وفي النفس قوة الحس وقوة العقل هما بالقوة نفس موضوعيهما، أحدهما المعقول بالقوة، والآخر المحسوس بالقوة. فبالضرورة كانت هذه القوى هي نفس موضوعاتها، أو على الأقل نفس صورها. أما أن تكون نفس موضوعاتها، فليس هذا ممكنا، لأنه ليس الحجر هو الموجود في النفس بل صورته"(ص. 120)

وفي سياق تحليله لملكات النفس، انتهى أرسطو إلى وجود تلازم وارتباط بين بعض الملكات. ومن أمثلة ذلك قوله أن ملكة الحس تنشأ معها دائما ملكة أخرى وهي المخيلة؛ بحيث يمكن القول: إنه كلما كانت القوة الحساسة إلا ووجدت معها قوة المخيلة. هناك، إذن، علاقة ارتباط بين الإحساس والتخيل. وكذلك توجد علاقة ارتباط بين التخيل والنزوع والشوق. يقول بهذا الصدد::

"وإذا كان في كل جزء الإحساس ففيه أيضا التخيل، والنزوع. لأنه إذا وجد الإحساس، وجد كذلك الألم واللذة. وإذا وجد الألم واللذة، فهناك بالضرورة الشوق"(ص. 47)

ويقول في مكان آخر.

"وليس في النبات إلا القوة الغاذية فقط؛ وفي بعض الكائنات هذه القوة، وكذلك قوة الحس؛ وإذا كانت عندها قوة الحس فعندها كذلك القوة النزوعية، لأن النزوع يشمل الشوق، والغضب، والإرادة. ولكن الحيوانات عندها جميعا إحدى الحواس على الأقل، نعني اللمس. وحيث يوجد الإحساس يوجد كذلك اللذة والألم. وإذا وجدت هذه الأحوال في كائن وجد عنده الشوق، إذ أن الشوق هو طلب المُلِذ" (ص. 50)

نظر أرسطو إلى المخيلة بوصفها ملكة تابعة لملكات أخرى، فهي تقع تحت تأثير ملكة الحس عند الحيوان والإنسان معا، وترتبط بالروية والملكات العقلية عند الإنسان وحده.

لم يكتف أرسطو برصد أحوال النفس لدى مختلف الكائنات الحية وبيان كيفية تدرجها ومراتبها وعلاقات بعضها ببعض، بل تجاوز ذلك في الفصول الأخيرة من كتاب "النفس" إلى البحث في الأسباب الكامنة خلف سلوك الكائن الحي من أجل الوقوف على المبدأ المحرك الذي يدفعه نحو تحقيق أهدافه التي قد يعيها أو لا يعيها. وساقه البحث والتقصي إلى التمييز في النفس بين نوعين من القوى: "قوة الحكم، وهي وظيفة التفكير والإحساس، ثم قوة التحريك بحسب الحركة المكانية" (ص. 121) وراح يبحث في أجزاء النفس التي لا حصر لها عنده () عن الجزء الذي يلعب دور المبدأ المحرك؛ واستبعد أن يكون هو القوة الغاذية، على اعتبار أن كل سلوك يهدف دائما إلى تحقيق غاية، هذا بالإضافة إلى أن كل حركة أو سلوك "يصحبها إما تخيل إما نزوع، لأن الحيوان ما لم يشتق إلى شيء أو يهرب منه فلا يتحرك إلا بالقسر"(ص.122) وكذلك استبعد أن يكون لقوة الحس علاقة مباشرة بالمبدأ المحرك. وكذلك العقل النظري، فإنه لا يمكن أن يكون علة الحركة، واستدل على ذلك بقوله:

"ذلك أن العقل النظري لا يعقل شيئا له بالعمل علاقة، ولا يحكم فيما يجب تجنبه وطلبه، على حين أن حركة التقدم تصدر دائما عن كائن يتجنب أو يطلب شيئا. وحتى إذا فعل العقل شيئا من هذا الجنس فإنه لا يأمر بطلبه أو بتجنبه: مثال ذالك أنه كثيرا ما يعقل شيئا مخيفا..دون أن يأمر بالهرب"(ص. 123)

وخلص في النهاية إلى القول بوجود قوتين محركتين وهما: النزوع أو الرغبة والعقل العملي. وعرف العقل العملي بأنه "العقل الذي يستدل لبلوغ غرض"(ص.122). وكذلك الحال بالنسبة للرغبة، فهي دائما متجهة نحو شيء ما، وبتعبير أرسطو، فإن "كل نزوع فهو من أجل غاية، لأن موضوع النزوع هو مبدأ العقل العملي"(ص. 124). إن ما يجعل من الرغبة والعقل العملي قوة محركة هو نزوعهما إلى غرض مطلوب؛ بحيث يمكن القول في النهاية بأن القوة المحركة تكمن أولا وقبل كل شيء في الغاية أو الغرض المطلوب. فالهدف الذي يتشبث به الكائن، أو لنقل موضوع رغبته، هو الذي بلعب دور الحافز أو القوة الدافعة في السلوك. "ولذلك، يقول أرسطو، فإن المطلوب هو دائما ما يحرك" (ص. 124)، سواء كان مطلوبا من جهة العقل أو من جهة الخيال، وفي كلتا الحالتين، فإن القوة المحركة هي القوة النزوعية أو قوة الرغبة والشوق. وإذا كان العقل لا يحرك بدون نزوع، فإن النزوع المختص به يكمن في الروية، ومعناها طلب الحق والصواب. فعندما يتحرك المرء عن تفكير وروية، فإنه يضرب لكل شيء حسابا. "أما النزوع فعلى العكس، فيمكن أن يحرك بدون أي استدلال، لأن الشوق ضرب من النزوع" (ص. 124). على هذا يمكن للرغبة أن تتعارض مع العقل، وينشأ صراع بينهما، وهو ما يسمى بلغة علم النفس المعاصر الصراع النفسي، والصراع بين الأنا والهو. كان أرسطو على وعي تام بهذا النوع من الصراع، وعبر عنه بعبارات ومفاهيم لا تختلف في شكلها ومضمونها عن المقولات والمفاهيم التي تقوم عليها نظرية التحليل النفسي، يقول بالحرف الواحد:

"فمن الواضح إذن أن ما يحرك هي قوة النفس التي تسمى بالنزوع. أما أولئك الذين يقسمون النفس أجزاء فإن فعلوا ذلك بحسب قواها ينتج عن ذلك عدد كبير من الأجزاء: غاذية، وعاقلة، ومروية، وأخرى نزوعية أيضا. هذه تختلف فيما بينها أكثر مما تختلف الشهوانية والغضبية – وحيث تتولد ضروب من النزوع يضاد بعضها بعضا، وهذا ما يحصل إذا تعارض العقل والشهوات (ولا يحصل هذا إلا في الكائنات التي تدرك الزمن؛ ذلك أن العقل يأمر بالمقاومة بالنظر إلى المستقبل، على حين أن الشهوة لا تتحرك إلا بحسب الحاضر، لأن اللذة الحاضرة تظهر على أنها لذيذة على الإطلاق، وخيرة على الإطلاق، لأننا لا نبصر المستقبل) فيترتب على ذلك أن المبدأ المحرك يجب أن يكون واحدا بالنوع" (ص. 125).

وإذا كان أرسطو قد انتبه إلى الصراع بين قوى الهو والأنا، فإنه أشار في هذا النص أيضا إشارة واضحة إلى وجود ما يسمى اليوم في لغة التحليل النفسي بمبدأ اللذة ومبدأ الواقع. إن القول بأن "الشهوة لا تتحرك إلا بحسب الحاضر" يضاهي ما ذهب إليه فرويد في حديثه عن الطاقة الليبيدية وقوى الهو العمياء التي تدفع الفرد إلى إشباع نزواته هنا والآن بغض النظر عن متطلبات الواقع وما يمكن أن يترتب عنها في المستقبل؛ ومعنى ذلك أن الهو لا يخضع إلا لمبدأ واحد وهو مبدأ اللذة، وعلى الظرف النقيض تقع الأنا التي لا تخضع في الغالب إلا لمبدأ الواقع.

Partager cet article
Repost0
15 novembre 2011 2 15 /11 /novembre /2011 19:14

علم النفس الأرسطي: الذاكرة والتذكر

أحمد أغبال

يرى أرسطو أن الذاكرة هي جزء من ملكة الإدراك الحسي: إنها الآلية التي تتولى مهمة فحص ومعالجة التجارب الحسية السابقة. وأما التجارب الحسية التي تقع في الزمن الحاضر فإنها تقع خارج دائرة نفوذ الذاكرة، ولا تشملها هذه الأخيرة إلا بعد أن تصبح في خبر كان. ولذلك تقترن الذاكرة في نظرية أرسطو بمفهوم الزمن. ويترتب عن ذلك أن الذاكرة لا تكون إلا عند الحيوانات التي تدرك الزمن؛ وهي عند هذه الحيوانات جزء لا يتجزأ من الملكة التي تمكنها من إدراك الموضوعات الخارجية، أي ملكة الإدراك الحسي.  ومن هنا استخلص أرسطو الفكرة التالية: إن المبدأ الذي ترتكز عليه الذاكرة في تعاملها مع أي موضوع مهما كان نوعه هو مبدأ حسي. وحتى عندما يتعلق الأمر بالأفكار المجردة فإن الذاكرة لا تتعامل معها إلا من خلال بعض الانطباعات أو الصور الحسية. ولما كانت الذاكرة مرتبطة بملكة الحس، وكانت هذه الملكة مشتركة بين الإنسان والحيوان، كان لابد أن توجد الذاكرة عندهما معا. ولو كانت الذاكرة جزءا من ملكة العقل، لاستحال وجودها عند الحيوان. ومع ذلك، فإن الذاكرة لا توجد عند جميع أنواع الحيوانات، ولا ينعم بها إلا الحيوان الذي يدرك الزمن.

وأما موطن الذاكرة في النفس فهو المحل الذي تنشأ فيه صور الخيال، لأن الموضوعات التي تعالجها الذاكرة تنتمي كلها إلى عالم الخيال الذي تصنعه قوة المخيلة. والسؤال الأساسي الذي كان أرسطو يروم الجواب عليه هو: كيف يمكن تذكر ما ليس حاضرا حين يكون الحاضر الوحيد هو ما عرض للنفس من تحول ويكون الموضوع غائبا ؟ يقول أرسطو في جوابه على هذا السؤال:

"من البديهي الاعتقاد بأن الانطباع الذي ينشأ عن الإحساس في النفس وفي ذلك الجزء من الجسد الذي يدرك الإحساس أشبه ما يكون بنوع من الرسم، وبأن إدراك ذلك الانطباع هو الذي يمثل بالضبط ما يسمى بالذاكرة. إن الحركة التي تحدث حينئذ تطبع في النفس صورا حسية شبيهة بالخاتم المطبوع على قطعة من الشمع"[1]

 ثم تساءل بعد ذلك ما إذا كنا لا نتذكر غير الصور الحسية المطبوعة في النفس، أم أننا نتذكر الموضوعات الخارجية التي خلفت تلك الانطباعات في النفس. فإذا كان الانطباع الحسي وحده هو ما يمكن للذاكرة أن تسترجعه، فلن يكون باستطاعتنا أن نتذكر الموضوع الغائب. أما إذا كان بوسع الذاكرة أن تسترجع ذلك الموضوع، فكيف يمكن الانتقال من الانطباع الذي نحس به إلى الموضوع الغائب الذي لا نحس به ؟ وبعبارة أخرى: إذا سلما بوجود ما يشبه الطابع المرسوم في النفس، وكنا لا نحس إلا بوجود ذلك الطابع المرسوم بداخلنا، فيكيف يحصل أن نتذكر، مع ذلك، شيئا آخر هو الموضوع الغائب الذي لم يعد في متناول الحواس ؟

للإجابة على هذا السؤال، انطلق أرسطو من إجراء مقارنة بين الصورة المرسومة على لوحة والانطباع الحسي أو الصورة الحسية المرسومة في النفس. فالحيوان المرسوم على لوحة يمثل الحيوان ونسخة الحيوان في نفس الوقت؛ إن الرسم هو هو نفسه، إنه شيء واحد، ومع ذلك فإنه يمثل شيئين مختلفين: الكائن ونسخته. من البديهي أن كينونة النسخة تختلف اختلافا جوهريا عن كينونة الكائن. ومع ذلك، يمكن أن نتمثل الرسم على أنه حيوان أو على أنه نسخة الحيوان. ينطبق هذا أيضا على الصور الحسية المطبوعة في النفس. وهكذا، فعندما نتأمل الصورة الحسية، تبدو كما لو كانت شيئا قائما بذاته، مع أنها صورة لشيء آخر، أو صورة تحيل على موضوع خارجي. فإذا نظرنا إلى الصور الحسية كما هي في ذاتها، بدت على أنها تمثلات ذهنية، أو صور خالصة، وإذا نظرنا إليها في علاقتها بالموضوعات الخارجية، بدت على أنها نسخ أو ذكريات. 

ومن ثمة، كان بإمكان الذات المفكرة أن تنظر إلى ما تختزنه الذاكرة من صور إما بوصفها كيانات قائمة بذاتها أو بوصفها نسخا لكيانات أخرى غيرها. ونظرا لإمكانية التعامل مع تلك الصور بهذه الطريقة أو تلك، فقد يحدث أن يخلط الفرد بين الصور الحسية التي تشكلت في الزمن الحاضر وبين الذكريات: فقد يجد بعض الأشخاص صعوبة في التمييز بين الانطباعات الحسية الراهنة - التي تشكلت في الزمن الحاضر- وبين الصور المسترجعة التي تشكلت في الماضي؛ وقد يحصل العكس، فيأخذ المرء صور الماضي (الذكريات) على أنها انطباعات حسية آنية. وهذا ما يحصل لمن يوجد في ما يشبه حالة الوجد أو الجنون، فينظر إلى صور الخيال على أنها وقائع حقيقية، وكذلك قد ينظر إلى ما ليس بنسخة على أنه نسخة حقيقية.

ولكي لا تشتبه علينا الأمور، اقترح أرسطو القيام بتمارين لدعم نشاط الذاكرة وزيادة الوعي بالقواعد المتحكمة في كيفية اشتغالها وفي مقدمتها القاعدة التي مفادها أن التمثلات الذهنية ليست كيانات قائمة بذاتها، بل هي نسخ لموضوعات خارجية. ومن هنا خلص أرسطو إلى تعريف الذاكرة بقوله:

"وباختصار، يمكن أن نعرف الذاكرة، إذن، على أنها إدراك للصورة التي خلفها الموضوع في النفس بوصفها نسخة للموضوع الذي تمثل صورته؛ وأما المبدأ الذي يستند عليه هذا الإدراك فهو مبدأ الحس ذاته الذي يمدنا بمفهوم الزمن"[2]

إن الذاكرة هي إدراك الصور الحسية التي تشكلت في الماضي. فلا وجود للذاكرة ما لم توجد ملكة الحس التي ينشأ عنها مفهوم الزمن، ولا يتحقق فعل التذكر إلا من خلال الوعي بالزمن. ومعنى ذلك أن الذاكرة، في نظر أرسطو، لا توجد إلا عند الحيوان الذي يدرك الزمن. وكما أن الذاكرة تحتاج في اشتغالها لمفهوم الزمن، كذلك يرتبط التفكير عند أرسطو بهذا المفهوم. لا يتحقق فعل التفكير إلا من خلال الاشتغال على مضمون محدد استنادا إلى مفهوم الزمن. يشترط التفكير في نظرية أرسطو توفر مفهوم المضمون ومفهوم الزمن. ولما كان مفهوم الزمن صادرا عن ملكة الحس، وكان التفكير محتاجا لمفهوم الزمن، لزم أن ينطلق التفكير من المعطى الحسي الذي يمثل المضمون الواقعي للفكر. ومن هنا تتبين لنا الطبيعة الأمبريقية للمذهب الأرسطي: إن للمعرفة النظرية، من وجهة النظر الأرسطية، أساس إمبريقي، وهو المعطى الذي توفره ملكة الحس. ولما كان للذاكرة والتفكير أساس مشترك، وهو مبدأ الحس، وكانت الذاكرة هي إدراك الصور الحسية، فإن تذكر الأفكار يحتاج بدوره إلى استحضار الصور الحسية. إن تذكر العناصر النظرية المجردة يمر عبر تذكر أساسها الأمبريقي المتمثل في الانطباعات أو الصور الحسية. لأن الذاكرة لا تدرك، من حيث المبدأ، إلا الصور الحسية وحدها؛ وهذا ما يفسر وجودها عند كل من الحيوان والإنسان في نظر أرسطو. إلا أنها لا توجد لدى جميع أصناف الحيوانات دون استثناء، بل يقتصر وجودها على الأنواع التي تدرك منها الزمن. ولو كانت الذاكرة آلية من آليات البعد العقلي للنفس لتعذر وجودها لدى الحيوان.

تساءل أرسطو عن الجزء الذي تحتله الذاكرة من النفس، وبدا له أنها تحتل نفس الموقع الذي تصدر عنه المخيلة، بدليل أن موضوعات الذاكرة (الصور الحسية) هي العناصر نفسها التي تشتمل عليها المخيلة.

وإذا كان الإنسان يشترك في الذاكرة مع الحيوانات التي تدرك الزمن، فإنه يتميز عنها بالقدرة على التذكر. ويرجع السبب في اختصاص الإنسان بالتذكر إلى كونه الكائن الطبيعي الوحيد الذي يمتلك الإرادة والقدرة على الاستدلال العقلي؛ هذا مع العلم أن التذكر نفسه هو في نظر أرسطو، ضرب من ضروب الاستدلال. لأن استرجاع الوقائع البعيدة يفترض وجود نوع من الترابط المنطقي بين الذكريات؛ وبفضل هذا الترابط تستدعي الذكرى القريبة أو المسترجعة الذكرى التي سبقتها، وهكذا دواليك إلى أن يصل الشخص إلى أبعد الذكريات. ولا يمكن القيام بهذه العملية إلا إذا توفرت الإرادة. والنتيجة هي أن الاستدلال يحتاج إلى الإرادة والقدرة على بذل المجهود في البحث والتقصي. يقول أرسطو:

"ولا يمكن أن يقوم بهذا المجهود إلا الحيوان الذي حبته الطبيعة بقوة الإرادة، وهذه الإرادة بدورها هي نوع من الاستدلال والقياس"[3]

ويفترض أرسطو وجود علاقة بين القدرة على التذكر والبعد الفيزيولوجي للإنسان. إن التذكر في نظره هو بحث تقوم به النفس العاقلة في الصور التي تنتجها الأعضاء الحسية. وأما دليله على ذلك فهو أن الشخص الذي يعجز عن تذكر بعض الأشياء كثيرا ما يصاب بنوع من الاضطراب: تستحوذ عليه الرغبة في التذكر، ويبذل قصارى الجهد في البحث دون أن يصل إلى أية نتيجة. بحيث يمكن القول إن شدة الرغبة في التذكر لدى بعض الأفراد تولد لديهم العجز عن التذكر. وهذه سمة من السمات التي تميز الأشخاص الذين يعانون من القلق.

وبناء على ما سبق يمكن اعتبار أرسطو المؤسس الأول للمذهب الترابطي في علم النفس. ويرجع له الفضل في الكشف عن القوانين الأساسية للترابط وهي: التجاور في الزمان أو المكان، والتشابه بين الأحداث والتناقش بينها. فالوقائع المتجاورة يستدعي بعضها بعضا، والشبيه يذكرنا بشبيهه، والنقيض بنقيضه. وهذه المبادئ نفسها هي التي تقوم عليها المدرسة الترابطية الحديثة في مجال علم النفس.



[1] ARISTOTE. Opuscule. Traité de la mémoire et de la réminiscence. Traduction française :  
   Barthélémy Saint-Hilaire. http://remacle.org/bloodwolf/philosophes/Aristote/memoire.htm

[2]  نفس المصدر السابق

[3]  نفس المصدر السابق

Partager cet article
Repost0
29 mai 2011 7 29 /05 /mai /2011 19:22

الليبيرالية السياسية ومبادئها الأخلاقية

مدخل إلى فلسفة جون راولز

أحمد أغبال

في عام 1958 نشر جون راولز مقالة مطولة بـ"المجلة الفلسفية" تحت عنوان: "العدالة كإنصاف" رسم فيها الخطوط العريضة لمشروعه الفكري الذي أخذ صورته الكاملة وغير النهائية في كتابه "نظرية العدالة"[1] الصادر عام 1971 والذي أعاد نشره بعد مراجعته عام 1975. نقرأ في مستهل المقالة السابقة الذكر ما يلي:

"يبدو للوهلة الأولى أن مفهومي العدالة والإنصاف يدلان على نفس الشيء، وأنه ليس هناك ما يدعو إلى التمييز بينهما. أعتقد أن هذا التصور خاطئ. أريد أن أبين في هذه المقالة بأن الفكرة الأساسية التي ينطوي عليها مفهوم العدالة هي الإنصاف؛ وأود أن أقدم تحليلا لمفهوم العدالة من وجهة النظر هذه. ولبيان موطن القوة في هذا المطلب والتحليل الذي يرتكز عليه، سأحاول البرهنة على أن هذا الجانب من العدالة هو ما لم تستطع النزعة النفعية في شكلها الكلاسيكي بيانه، وهو، في المقابل، ما تعبر عنه فكرة العقد الاجتماعي حتى وإن كان ذالك بطريقة مضللة"([2])

تلخص هذه الفقرة مشروع راولز الفلسفي وتصوره لأسس العدالة ومبادئها، وتبين مدى تميزه عن مذاهب الفلاسفة السابقين من رواد المذهب النفعي من أمثال دافيد هيوم وجون ستوارت مل وجرمي بنتام، ورواد نظرية العقد الاجتماعي من أمثال روسو وهوبز وجون لوك وكانط. يرتكز تصور راولز للعدالة على مجموعة من المصادرات الأساسية التي اهتدى إليها بضرب من الحدس العقلي باعتبارها بديهية بذاتها لا تقبل البرهان ولا يمكن البرهنة عليها. وقبل أن نستعرض تصوره للعدالة نرى من الضروري التعريف بمنهجيته وطريقته المتميزة في بناء نظريته.

1.    منهجية راولز وفرضية الوضعية الأصلية

يصنف جون راولز نفسه ضمن المذهب الليبرالي الذي سعى منذ بداية نشأته إلى توفير إطار نظري لحقوق الإنسان، ولكنه أراد أن يجد لنفسه موقعا خاصا داخل هذا المذهب يميزه عن غيره من المفكرين الذين ينضوون تحت لوائه؛ فاختار طريقة في التفكير جعلته ينظر إلى قضايا العدالة وحقوق الإنسان من موقع يقع خارج الأطر والمرجعيات الفلسفية. فإذا كانت الفلسفة الليبرالية وغيرها من المذاهب الفلسفية الأخرى تنطلق في تحديدها لما ينبغي أن يكون عليه النظام الاجتماعي والسياسي من تصور معين للعالم وللطبيعة الإنسانية، فإن راولز ألقى بمصادراتها الفلسفية جانبا، وراح يبحث عن مصادرات بديلة انطلاقا من أرضية سياسية.

وهكذا، فإذا كانت الفلسفة الليبرالية قد لجأت إلى المقاربة الميتافيزيقية في تناولها لموضوعاتها، وانطلقت من تصور معين للطبيعة الإنسانية، ثم استنبطت منه جملة من المبادئ والقيم والمثل العليا التي ينبغي الالتزام بها لتحقيق السعادة في هذا العالم والخلاص في العالم الأخروي، فإن راولز اختار مقاربة سياسية تقوم على ما يسميه مبدأ تعليق الشرط الإبستملوجي. يقضي هذا المبدأ بضرورة اتخاذ موقف الحياد إزاء القضايا المتعلقة بالطبيعة الإنسانية، والإمساك عن ادعاء الحقيقة فيما يتعلق بأسس النظام الديمقراطي ومبادئ العدالة. وعلى هذا أصبحت الفلسفة السياسية عنده تسعى إلى بيان طبيعة النظم الاجتماعية الحديثة بغض النظر عما إذا كانت المبادئ التي تقوم عليها منسجمة مع معايير الحقيقة الفلسفية أو الميتافيزيقية. ومعنى ذلك أن نظرية الليبرالية السياسية كما يتصورها راولز لا تنطلق من أي تصور فلسفي لحقيقة الواقع والطبيعة الإنسانية، ولا تحتاج بالتالي إلى أي مبرر إبستملوجي لدعم المصادرات الأساسية التي يتأسس عليها النظام الديمقراطي العادل. وذهب راولز في تصوره لليبرالية السياسية إلى حد إقامة نوع من التفرقة بين النظرية السياسية وفلسفة الأخلاق، وهو ما عبر عنه بقوله: "إن القضايا المتعلقة بالعدالة الأساسية يمكن دعمها إلى أقصى حد ممكن استنادا إلى القيم السياسية وحدها"[3]؛ وهذا ما يميز موقفه من الأنظمة الليبرالية عن باقي المواقف التي تندرج ضمن الفلسفة الليبرالية.

تنطلق المقاربة السياسية لراولز من الاعتراف بواقع الثقافة الديمقراطية وصلاحيتها بوصفها القاسم المشترك بين مختلف مكونات المجتمعات الغربية الحديثة. وأما ما يميز البلدان الغربية، في نظره، فهو الإجماع الحاصل بين جميع المواطنين حول المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الثقافة السياسية السائدة؛ ومع الإقرار بواقع هذه الثقافة، يحاول كل مواطن أن يجد لمبادئها مبررات في المذهب الذي يعتنقه كلما دعت الضرورة إلى ذلك. إن الليبرالية السياسية ، كما يتصورها راولز، لا تنطلق من الحقائق الأخلاقية العامة، بل من معطيات الثقافة المشتركة، طالما ظلت هذه الثقافة بميزاتها الإيجابية قابلة للتطور باستمرار؛ وكذلك فإن هذه الليبرالية لا تدعي لنفسها امتلاك الحقيقة فيما يتعلق بموضوع العدالة، كما أنها لا تحتكم إلى أية نظرية فلسفية بعينها للتحقق من صحة المبادئ التي صدرت عنها ثقافة المجتمع، وإنما تترك أمر ذلك كله للمواطنين الذين يتعين عليهم أن يقرروا كل على انفراد كيفية ارتباط القيم السياسية بقيم مذاهبهم العامة. يقول راولز بهذا الصدد:

"يرجع الأصل في هذا الموقف إلى الأفكار الأساسية التي تقوم عليها الثقافة السياسية العمومية، وإلى مبادئ وتصورات العقل العملي الذي يشترك فيه المواطنون. ولذلك [...] يتوقع أن يكون المواطنون قادرين على قبول مبادئه وتصوراته إلى جانب مذاهبهم الشاملة المعقولة. حينئذ يمكن للتصور السياسي للعدالة أن يصبح محل إجماع"([4]) 

هنا يكمن المضمون الحقيقي لمفهوم الليبرالية السياسية كما يتصورها راولز. يدل هذا المفهوم على الميل المتزايد إلى تحرير القيم السياسية من التبعية للمذاهب والتيارات الفلسفية دون أن يؤدي ذلك إلى إلغاء التعددية المذهبية، بل يترك لكل مذهب حرية "تحديد كيفية ارتباط فكرته عن المعقول بتصوره للحقيقة"([5]) ومما يترتب عن استعمال مفهوم الليبرالية السياسية على المستوى المنهجي، أن الباحث يكون ملزما بمراعاة مبدأ تعليق الشرط الإبستملوجي في الدراسات السياسية حتى لا ينزلق إلى براثن النزعة الدوغمائية الوثوقية، والنظرة الشمولية، والصراعات العقائدية. وفيما يتعلق بالممارسة السياسية، فإن قبول التصور السياسي البنائي كبديل للتصور البنائي الميتافيزيقي هو الكفيل بتحقيق المثل الأعلى للمواطنة الديمقراطية الذي ينحل فيه الخلاف المذهبي وفقا لمبادئ العقل العمومي، وبذلك يضمن للمجتمع  نوعا من التوازن والاستقرار.

ويعتبر مفهوم "الإجماع بالتقاطع"، وهو الإجماع الناتج عن التقاطعات بين مختلف "المذاهب المعقولة"، أحد المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها نظرية الليبرالية السياسية. يعكس هذا المفهوم واقع الثقافة السياسية المشتركة بين أفراد المجتمع على اختلاف توجهاتهم المذهبية والفكرية؛ وتكمن أهميته في قدرته على الاستجابة لمطلب التعددية ومطلب الاستقرار. وتهدف الليبرالية السياسية من خلال تحقيق هذا النوع من الإجماع إلى بيان وترسيخ المبادئ والقيم الأساسية الكامنة خلف نظرة المجتمع الديمقراطي إلى العدالة، هذا مع العلم بأن القيم والمبادئ المشار إليها لا توجد خارج حقل الثقافة السياسية المشتركة. يقول راولز بهذا الصدد:

"سنبدأ، إذن، بإلقاء نظرة على الثقافة العمومية نفسها باعتبارها المخزون المشترك الذي يتضمن الأفكار والمبادئ الأساسية المعترف بها ضمنيا. ونأمل في صياغة هذه الأفكار والمبادئ بشكل واضح بحيث يمكن التأليف بينها في إطار تصور سياسي للعدالة يتناسب مع معتقداتنا الأكثر رسوخا"([6])  

إن الاعتراف الضمني بمبادئ الثقافة السياسية المشتركة هو ما يجعل الليبرالية السياسية ممكنة، ويسمح بانتشار مشاعر الثقة بين الأفراد والمؤسسات؛ ومن هنا جاء مفهوم "الثقة المعقولة"  الذي يعتبر أحد المفاهيم الأساسية في الجهاز الإبستملوجي الذي تقوم عليه المقاربة السياسية لراولز. ولقد جاء هذا المفهوم في نظرية العدالة كإنصاف كبديل لمفهوم "الحقيقة". وما يبرر هذا التوجه ثلاثة أمور: أولها أن نظرية العدالة كإنصاف تطرح نفسها بوصفها  التعبير الصحيح والمناسب عن قيم الثقافة السياسية المشتركة؛ وثانيها أنه بإمكان كل مذهب من المذاهب الشاملة المعقولة أن يجد لنفسه سندا أو مبررا في هذه الثقافة؛ وثالثها أن مفهوم "الحقيقة" لا يتناسب مع مبدأ التعددية، ولا يصلح كمعيار للحكم على المواقف الأخلاقية والسياسية.

ولهذه الاعتبارات كلها كان لابد من استبدال مفهوم "الحقيقة" بمفهوم "الثقة المعقولة". وأما ما يبرر هذا التوجه فهو الاعتقاد بأن مفهوم "الثقة المعقولة" يؤدي في مجال الأخلاق والسياسة نفس الوظيفة التي يؤديها مفهوم الحقيقة في المجال المعرفي. ويعتبر مفهوم "الثقة المعقولة" في التقاليد الفلسفية التي ترجع أصولها إلى كانط الدعامة الأساسية التي ترتكز عليها الأفكار والمقولات الأخلاقية؛ وهذا بالضبط هو ما يؤهله لأداء وظيفته على المستوى السياسي مثلما يؤدي مفهوم "الحقيقة" وظيفته على المستوى المعرفي. ومن وظائفه الأساسية التقريب بين المذاهب المعقولة المتنافسة، وضمان إمكانية التوافق بينها، ومن ثمة إمكانية تنظيم المجتمع بشكل جيد ومعقول. وهكذا، فإن الاعتراف الضمني بمبادئ الثقافة السياسية المشتركة يستدعي الثقة في المؤسسات الأساسية من جهة، والتحفظ في ادعاء الحقيقة من جهة أخرى، وبذلك يفسح المجال لليبرالية السياسية، ويتيح الفرصة لقيام إجماع بالتقاطع.

وأما ما يجعل التوافق بين مختلف المذاهب ممكنا رغم اختلاف تصوراتها للحقيقة فهو اعترافها بوجود ثقافة سياسية مشتركة؛ وهذا الاعتراف هو الذي يضفي صفة المعقولية على المذاهب المتنافسة وعلى مواقفها المتضاربة. وبحكم مرجعيتها الثقافية المشتركة تصبح الثقة بين المذاهب المتنافسة أمرا ممكنا ومعقولا.   

ولكن، ما هو المضمون الدلالي لمفهوم الثقة المعقولة ؟ يدل هذا المفهوم، في المقام الأول، على الإيمان بإمكانية قيام الليبرالية السياسية التي تضمن إمكانية قيام نظام دستوري عادل. وتعتبر الثقة المعقولة في فلسفة راولز الشرط الضروري الذي لا غنى عنه لتحقيق الليبرالية السياسية التي تتيح الفرصة للتعاقد والإجماع بالتقاطع بين المذاهب المتنافسة في المجتمعات ذات التقاليد الديمقراطية التي يحكمها مبدأ التعددية المعقولة. تمثل الثقة المعقولة من وجهة النظر هذه حجر الزاوية في الليبرالية السياسية، وتعبر- على المستوى العملي- عن الرغبة في التوفيق بين المذاهب المتنافسة التي يدعي كل واحد منها امتلاك نوع من الحقيقة، والتأليف بينها في إطار ما يسميه راولز بـ"المجتمع المنظم بشكل جيد".

ويعتبر مفهوم "المجتمع المنظم بشكل جيد" أحد المفاهيم الأساسية في النظرية السياسية لراولز. يدل هذا المفهوم على النظام الاجتماعي المنظم وفقا للتصور السياسي للعدالة، وهو النظام الذي تحكمه مؤسسات تخضع في سيرها لقواعد يعترف بها جميع المواطنين ويعملون بها في الحقل العمومي. ولا يتحقق هذا النظام في صورته المثلى إلا إذا توافرت الشروط التالية:

ضرورة أن يقبل كل فرد تصورا معينا للعدالة ومبادئها، وأن يكون على علم بأن الأفراد الآخرين يقبلونها مثلما يقبلها هو؛

ضرورة أن تستجيب بنية المجتمع الأساسية أو المؤسسات الأساسية التي يتألف منها النظام الاجتماعي لهذه المبادئ، وأن يكون هناك ما يبرر بشكل معقول اعتقاد الناس بأن هذه المؤسسات تحقق لهم العدالة بالفعل؛

ضرورة أن يكون التصور العمومي للعدالة مبنيا على أساس الاعتقاد المعقول بأنه تصور منبثق عن مناهج البحث المعترف بها؛

ضرورة أن ينظر الأفراد إلى أنفسهم على أنهم متساوون في الحرية ولهم نفس الشخصية الأخلاقية التي تبعث فيهم الإحساس بالعدالة في بعدها السياسي بالخصوص؛

ضرورة أن يكون للأفراد تصور للخير، يجعلون منه هدفهم الأساسي، ويتيح لهم إمكانية المطالبة بحقوقهم المشروعة في إطار مؤسساتهم؛

ضرورة أن يكون لهم الحق، وأن ينظروا إلى أنفسهم على أن لهم الحق، في نيل ما يستحقونه من الاحترام والتقدير من خلال تمكينهم من المساهمة في تحديد المبادئ التي تنظم البنية الأساسية للمجتمع؛

ضرورة أن تشتغل المؤسسات الأساسية بطريقة تولد الإحساس بالعدالة في نفوس الناس من أجل إرساء دعائم الاستقرار في المجتمع.

وخلاصة القول: إن المجتمع المنظم بشكل جيد هو ذلك النظام الاجتماعي الذي بلغ درجة كافية من الاكتفاء الذاتي؛ وهو المجتمع الذي تتوافر فيه شروط التعاون المنصف بين المواطنين المعقولين والعقلانيين الذين يعتبرون أنفسهم أحرارا متساوين، لهم تصور مشترك للعدالة، ويعترفون جميعا بمبادئها الأساسية، ويعلم كل واحد منهم بأن الآخرين يعترفون مثله بتلك المبادئ.   

ولتحديد مبادئ العدالة التي يجب أن تخضع لها أنشطة المؤسسات الاجتماعية والسياسية في المجتمع المنظم بشكل جيد، اعتمد راولز على مقاربة بنائية متميزة تنطلق من الربط بين تصور معين للشخص وبين المبادئ الأولية للعدالة. ففيما يتعلق بمفهوم الشخص، اعتمد راولز في بنائه على مبدأ الأمر المطلق الذي وجده عند كانط، ونظر إلى هذا المبدأ بوصفه أحد المكونات الأساسية التي تندرج في تكوين فكرة الشخص. ويدل مفهوم الشخص عنده على كل كائن يتمتع بحرية الإرادة والاختيار، ويتمتع بالقدرة على التصرف بطريقة عقلانية ومعقولة في نفس الوقت؛ ويعتبر جميع الأشخاص متساوين بالنظر إلى هذه الصفات. إن وجود الشخص بهذا المعنى هو ما يجعل الأخلاق ممكنة، لأن المبادئ الأخلاقية لا تفرض على الناس قهرا؛ ولا يمكن الحديث عن الأخلاق ما لم تتح لجميع الأفراد حرية اختيار بعض المبادئ بطريقة عقلانية ليصنعوا منها القانون الأخلاقي الذي ينظم علاقاتهم ومعاملاتهم في إطار الجماعة التي ينتمون إليها والتي يمكن وصفها بالتالي بأنها جماعة أخلاقية.

يتبين في ضوء هذا التحليل أن مبادئ الأخلاق والعدالة هي قبل كل شيء نتاج الاختيارات العقلانية والقرارات التي يتخذها أشخاص يتمتعون بحرية الإرادة والاستقلال من أجل تنظيم علاقات بعضهم ببعض. ومعنى ذلك أن مبادئ الأخلاق والعدالة لا توجد في استقلال عن تصورنا للشخص، وأن نظامها يقوم بالأساس على مبدأ الاستقلال الشخصي الذي يتحكم في ذلك التصور؛ ويفهم من ذلك أيضا أن مبادئ العدالة ليست من جملة الأشياء التي توجد هناك في العالم الخارجي، ولا يمكن بالتالي اكتشافها مثلما تكتشف الكواكب في الفضاء، بل هي عبارة عن أبنية عقلية يشيدها أشخاص عقلانيون يتمتعون بحرية الإرادة والاستقلال.

لا يمكن القول، إذن، بوجود منظومات أخلاقية قائمة بذاتها في استقلال عن الملكات الذاتية للإنسان، لأن كل ادعاء من هذا القبيل يتنافى مع مبادئ الاستقلال وحرية الإرادة والاختيار. فإذا كان لابد من الاعتراف بوجود منظومات أخلاقية، فإن هذه المنظومات لا توجد في استقلال عن تصوراتنا لما ينبغي أن يكون عليه الواقع الإنساني، إنها عبارة عن أبنية ذات صلة وثيقة بالخصائص الجوهرية للأشخاص الذين يشيدونها. هذه هي الفكرة الأساسية التي تنطوي عليها المقاربة البنائية لراولز، والتي يمكن اعتبارها أيضا منهجية للتعاقد. تنطلق هذه المقاربة في سعيها لاستنباط مبادئ العدالة والتعاون من فرضية "الوضعية الأصلية" التي تشبه إلى حد ما فرضية "حالة الطبيعة" التي نجدها عند كل من روسو وهوبز وجون لوك. وقد استعملت فرضية حالة الطبيعة في مجال الأنثربولوجيا السياسية بصفة خاصة لتشكيل فكرة عن الطبيعة الإنسانية، ومعرفة كيف كانت قبل ظهور المجتمع المنظم وتأسيس الدولة بمؤسساتها وقوانينها؛ وتكمن أهمية هذه الفرضية من الناحية المنهجية في أنها تساعد على تلمس الأسباب التي دفعت الناس إلى تشييد مجتمعات منظمة، ومعرفة المبادئ التي اختاروها في المرحلة قبل-السياسية لتنظيم علاقاتهم في إطار الدولة التي سيؤسسونها.

2.    فرضية الوضعية الأصلية

إن الوضعية الأصلية كما يتصورها راولز هي وضعية مفترضة تضم مجموعة من الأفراد اجتمعوا للتداول في مشروع بناء مجتمع عادل؛ ويهدف برنامج العمل الذي اجتمعوا عليه إلى صياغة تصور للعدالة كإنصاف يقوم على مجموعة من المبادئ التي يجب أن تخضع لها البنيات الأساسية للمجتمع. وأما الطريقة المثلى التي تفرض نفسها على المفكرين في هذه الحالة فهي الطريقة البنائية، ذلك لأن المجتمع لا يتوفر على تصور مكتمل للعدالة، ولا على أي تصور للخير متفق عليه؛ هذا بالإضافة إلى أن مبادئ العدالة لا توجد في الواقع كموضوع مفارق من الموضوعات التي يبحث فيها العقل النظري، ولا يتطلب الأمر بالتالي معرفتها مثلما تعرف الموضوعات الخارجية؛ إن ما ينبغي القيام به في الوضعية الأصلية هو صياغة تلك المبادئ صياغة عقلية في ضوء فكرة العدالة كإنصاف باعتبارها مقولة من المقولات المتأصلة في العقل العملي. ولما كانت مبادئ العدالة تقع خارج دائرة اهتمام العقل النظري، فإنها لا تحتاج في قبولها إلى برهان يستند على معايير الحقيقة بالمعنى الفلسفي أو الميتافيزيقي، ما دامت تستمد قيمتها من ذاتها بوصفها جزءا من العقل العملي. وأما وظيفة هذا العقل فهي على حد تعبير راولز "إنتاج موضوعات مطابقة لتصورنا لتلك الموضوعات، كتصورنا مثلا للنظام الدستوري العادل  الذي يُطرح بوصفه هدفا للنشاط السياسي"([7]). وهذا هو ما يميز العقل العملي عن العقل النظري الذي يسعى إلى معرفة الموضوعات المعطاة في الواقع.

وتشتغل المقاربة البنائية السياسية وفقا لتصور معين للعلاقة بين العقل العملي والتصور السياسي الديمقراطي للشخص والمجتمع وللدور الذي تلعبه مبادئ العدالة في الفضاء العمومي. وتستمد هذه المقاربة تصورها للشخص من ثقافة المجتمع الديمقراطي الليبرالي؛ فهو إذن تصور سياسي ، يتحدد فيه مفهوم الشخص بوصفه المواطن الذي يعيش في كنف النظام الديمقراطي الليبرالي. ولما كانت فكرة الشخص بهذا المعنى مبثوثة في الثقافة الديمقراطية الليبرالية في شكل مصادرة ضمنية أساسية، فإن دور المقاربة البنائية ينحصر في الإفصاح عنها وبلورتها في ضوء مقتضيات العقل العملي؛ ومن هنا اكتسب مفهوم الشخص دلالة سياسية وأخلاقية في فلسفة راولز، حيث أصبح يشير إلى الفرد المؤهل لأن يكون مواطنا، أي عضوا اجتماعيا يسعى باستمرار إلى التعاون بشكل كلي ومستمر مع المواطنين الآخرين.

تنظر الثقافة الديمقراطية الليبرالية إلى الشخص بوصفه مواطنا حرا يتساوى مع الأشخاص الآخرين في مقومات المواطنة بالمعنى المتعارف عليه في ظل الثقافة الديمقراطية الليبرالية. وما يجعل من الحرية والمساواة أمرا من الأمور الممكنة هو الاعتقاد بأن كل شخص ينطوي في ذاته على قوتين أساسيتين من القوى الأخلاقية المتوحدة مع العقل، وهما: القدرة على الإحساس بالعدالة من جهة، والقدرة على تشكيل تصور للخير والسعي إلى تحقيقه، من جهة أخرى. إن القدرة على الإحساس بالعدالة والقدرة على تشكيل تصور للخير هو ما يجعل الشخص حرا؛ وبفضل هذه الحرية التي يشترك فيها جميع المواطنين أمكن لكل شخص أن ينظر إلى نفسه على أنه مساو لأي شخص آخر وأن يطالب بحقوقه. ولكن فكرة المساواة لا تكتسب مضمونها الاجتماعي الفعلي إلا إذا بلغت القوى الأخلاقية المشار إليها درجة من النمو تسمح بظهور وتقوية روح التعاون بين المواطنين على خلفية الإجماع التوافقي بين المذاهب المتنافسة التي تختلف تصوراتها للحقيقة والخير.

ومن هذا المنطلق يتعين على الأشخاص، باعتبارهم مواطنين متساوين في الحرية والحقوق، أن يختاروا في الوضعية الأصلية المفترضة مبادئ العدالة التي يجب أن تتأسس عليها البنيات الأساسية للمجتمع وأن تنظم العلاقات بين المواطنين في المجتمع الديمقراطي الليبرالي. ينبغي، إذن، من حيث المبدأ، أن يقبل الأشخاص العقلانيون، الذين يرغبون في ضمان تحقيق مصالحهم، مبادئ العدالة في الوضعية الأصلية التي هي وضعية مساواة، وأن يعملوا على تطبيقها في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية؛ هذا ما يجعل من فرضية الوضعية الأصلية وسيلة منهجية لحل المشكلات الأساسية التي تواجه المجتمعات البشرية، كمشكلة التعايش الاجتماعي والاستقرار. ويعتبر قبول الناس لمبادئ العدالة الحل العقلاني الناجع لهذه المشكلات؛ يقول راولز بهذا الخصوص:

"بالنظر إلى ظروف مختلف الأطراف، ومعرفتهم، ومعتقداتهم، ومصالحهم، فإن قبول هذه المبادئ هو أحسن طريقة لضمان تحقيق أهداف كل شخص مقارنة بالبدائل المتاحة"([8])

وينبغي تطبيق هذه المبادئ في مجالين أساسيين من مجالات الحياة الاجتماعية وهما: المجال السياسي والحقوقي، والمجال الاجتماعي- الاقتصادي، فمن جهة "يجب أن تتحكم في عملية تخويل الحقوق وفرض الواجبات"، ويجب من جهة أخرى أن "تنظم عملية توزيع العوائد والفوائد الاجتماعية والاقتصادية"([9]). وحدد راولز للمجتمعين في الوضعية الأصلية شروطا، أولها أن يكون كل شخص منهم عقلانيا يسعى إلى ما فيه خير أولئك الذين يمثلهم، وذلك بأن يوفر لهم الوسائل التي تمكنهم من تشكيل تصوراتهم الخاصة للخير وتحقيقه؛ وتقتضي العقلانية الاعتراف بأن لكل شخص مصالحه الخاصة، وبأن له الحق في مراجعة تصوره للخير في ضوء المذهب الذي يعتنقه باعتباره شخصا يتمتع بحرية الإرادة والاختيار؛ ويشترط في المتعاقدين أيضا ألا يكونوا على بينة من أحوال الفاعلين الاجتماعيين الذين يمثلونهم، وألا يكونوا على علم بطبيعة مؤسساتهم الاجتماعية؛ إن المعرفة بهذه الأمور محظورة في الوضعية الأصلية. ومن هنا جاء مفهوم "ستار الجهل"، وهو الشرط الثاني الذي يجب أن تستوفيه الوضعية الأصلية، ومعناه أن يقف المجتمعون فيها خلف حجاب يحول دون معرفة كل ما له علاقة بخصائص الأفراد الذين يمثلونهم كالسن والجنس وانتماءاتهم الطبقية والمهنية والدينية والمذهبية والعرقية، وتصوراتهم للخير، وما إلى ذلك. إن هذا الجهل المنهجي هو ما يجعل من الوضعية الأصلية وضعية مساواة شبيهة بحالة الطبيعة التي تمثل الإطار المرجعي الافتراضي بالنسبة لنظريات العقد الاجتماعي الكلاسيكية، يقول راولز:

"إن وضعية المساواة الأصلية تضاهي حالة الطبيعة في نظرية العقد الاجتماعي التقليدية. وليس يُنظر بطبيعة الحال إلى هذه الوضعية الأصلية على أنها واقعة تاريخية فعلية أو شرط أولي لقيام الثقافة. ينبغي أن تُفهم بوصفها وضعية افتراضية خالصة حُدِّدَتْ خصائصها بطريقة تفضي إلى تصور معين للعدالة. ومن بين أهم خصائص هذه الوضعية أن أحدا لا يعرف مكانته في المجتمع أو موقعه الطبقي ووضعيته الاجتماعية، ولا يعرف أي أحد نصيبه من التوزيع الطبيعي للقدرات والمهارات كمستوى ذكائه وقوته وما شابه ذلك؛ بل إنني سأذهب إلى حد التسليم بأن أي طرف من الأطراف المعنية لا يعرف تصوره للخير ولا نوازعه النفسية؛ وبذلك يتم اختيار مبادئ العدالة خلف ستار من الجهل. هذا ما يضمن التكافؤ بين الأفراد، بحيث لا يكون هناك من هو في وضعية مواتية أو من هو في وضعية غير مواتية لاختيار المبادئ بناء على حصيلة الحظ الطبيعي أو العوارض الاجتماعية. وبما أن الجميع يوجد في وضعية واحدة لا تسمح لأي أحد أن يضع المبادئ التي تخدم وضعيته الخاصة، فإن مبادئ العدالة ستأتي نتيجة تعاقد منصف. وهكذا، فنظرا لظروف الوضعية الأصلية، وبحكم التماثل الموجود بين علاقات كل فرد مع غيره، فإن الوضعية الأولية ستكون بالضرورة منصفة لجميع الأفراد بوصفهم أشخاصا أخلاقيين، أي كائنات عقلانية ذات أهداف خاصة، لا مانع عندي من التسليم بأنها مؤهلة للإحساس بالعدالة. يمكن القول بأن الوضعية الأصلية هي الوضع الأولي القائم والمناسب الذي يجعل الاتفاقيات الأساسية التي تبرم فيه منصفة للجميع. وهذا ما يفسر خاصية اسم "العدالة كإنصاف"، فهو يعبر عن فكرة مؤداها أن مبادئ العدالة هي تلك المبادئ التي تم الاتفاق حولها في وضعية أولية اتسمت بالإنصاف. ولا يعني الاسم [المشار إليه] أن لمفهوم العدالة ومفهوم الإنصاف معنى واحدا، مثلما أن عبارة "الشعر كمجاز" لا تعني أن للشعر والمجاز نفس الدلالة"([10]) 

لقد تشكلت الوضعية الأصلية بوصفها وضعية مساواة على خلفية الاعتراف بالتعددية المذهبية والاختلاف داخل الأنظمة الديمقراطية الليبرالية، ولكن قواعد اللعبة فيها وضعت بطريقة تفضي إلى تشكيل تصور للعدالة كإنصاف يكون الهدف منه هو ضمان التعاون والاستقرار في المجتمع من خلال توفير أساس فلسفي وأخلاقي لمؤسساتها يرتكز على تصور معين للحرية والمساواة. ومع ذلك، فإن مفهوم العدالة كإنصاف لم يأت كنتيجة منطقية لفرضية الوضعية الأصلية وقواعدها الشكلية فحسب، بل تبلور أيضا في ضوء بعض الأفكار المتضمنة في الثقافة السياسية الديمقراطية سواء أكانت صريحة أو مضمرة في شكل مصادرات ضمنية؛ ومن أبرز الأفكار التي وظفها راولز في بناء تصوره للعدالة كإنصاف: (1) فكرة أن المجتمع السياسي الديمقراطي هو نظام منصف يقوم على التعاون المستمر عبر الأجيال، يُنظر فيه إلى الأشخاص المتعاونين على أنهم مواطنون أحرار ومتساوون يؤمنون بالتعاون مع بعضهم البعض على مدى الحياة؛ (2) فكرة "المجتمع المنظم بطريقة جيدة"، ومعناه المجتمع المنظم وفقا لمبادئ العدالة كإنصاف.

تعتبر هذه الأفكار بمثابة المصادرات الضمنية الأساسية التي تقوم عليها الثقافة السياسية التي تكيف سلوك الفاعلين وتحدد مواقفهم واتجاهاتهم في الأنظمة الديمقراطية؛ يقول راولز في شرحه لهذه الأفكار:

"...نعتبر هذه الأفكار الحدسية الأساسية من الأفكار العادية المألوفة في الثقافة السياسية العمومية للمجتمع الديمقراطي. ومع أن هذه الأفكار لا تصاغ دائما بشكل صريح ولا تُحَدَّدُ معانيها دائما بما يكفي من الوضوح، فإنه من الممكن أن تلعب مع ذلك دورا أساسيا في الفكر السياسي للمجتمع، وفي الكيفية التي تُؤَوَّلُ بها مؤسساته في أعمال المحاكم والنصوص التاريخية أو غيرها من النصوص التي ينظر إليها على أنها مفعمة بالمعاني ذات القابلية العالية للاستمرار على المدى البعيد"([11]) 

يمكن القول في ضوء ما سبق: إن ما يحدد طبيعة المجتمع الديمقراطي هي نظرة الناس إليه، تلك النظرة التلقائية الشائعة التي تجعل منه نظام تعاون اجتماعي منصف. والدليل على ذلك في نظر راولز هو أن المواطنين لا ينظرون - وهم في خضم الجدل العمومي حول مسألة الحقوق السياسية - إلى نظامهم الاجتماعي على أنه نظام طبيعي قائم بذاته، أو على أنه نظام هرمي يخضع في تراتبيته لمنظومة القيم والمعايير الأرستقراطية، ولا يصنفونه ضمن الأنظمة التي تستمد مشروعيتها من المذاهب الدينية، بل يعتبرونه نظاما ديمقراطيا يقوم على أساس مبدأ التعاون. وليس المراد بالتعاون هنا التنسيق بين مختلف الأنشطة تنفيذا لقرارات تصدر عن سلطة عليا، بل المقصود به ثلاثة أمور وهي:

أن يتفق المتعاونون على القواعد والإجراءات التي ينبغي عليهم مراعاتها في تصرفاتهم ومعاملاتهم، وأن يعلنوا اعترافهم بها للعموم؛

أن تكون اتفاقيات التعاون منصفة، وأن يقبلها كل مشارك فيها. ويعتبر قبول الفرد لبنود الاتفاقية وشروطها أمرا معقولا عندما يقبلها الآخرون، مما يدل على أن فكرة التعاون الاجتماعي تستلزم العمل وفقا لمبدأ التبادلية ؛

ويشمل مفهوم التعاون الاجتماعي أيضا فكرة المصلحة الفردية الخاصة بوصفها مصلحة عقلانية. تدل هذه الفكرة على ما يمكن للفرد الملتزم بالتعاون أن يقدمه للآخرين انطلاقا من تصوره الخاص للخير ولما فيه مصلحته الشخصية.

وفي هذا الإطار، سيقوم المتعاقدون في الوضعية الأصلية، وهم خلف ستار من الجهل،  باختيار مبادئ العدالة السياسية التي تضمن لهم إمكانية التعاون المستمر والاستقرار في مجتمع يقوم على التعددية المذهبية والعقائدية. ولما كان الأمر يتعلق بالاختيار لا بالتفاوض، فإنه يتعين على المجتمعين في الوضعية الأصلية أن يتخذوا قراراتهم في ضوء نظرية الاختيار العقلاني أو ما يعرف أيضا بنظرية اتخاذ القرار؛ ولكن الوضعية التي سيتخذون فيها قراراتهم استثنائية بكل المقاييس: فهي وضعية يكتنفها الغموض وعدم اليقين المرتبطين بالإكراهات التي يفرضها ستار الجهل. ومن هنا يطرح السؤال: ما هو القرار العقلاني الذي يفرض نفسه على الشركاء بوصفهم أشخاصا عقلانيين ومعقولين؟ وإذا نظرنا إلى الإنسان بوصفه كائنا عقلانيا يسعى على الدوام إلى تحقيق مصلحته الخاصة، فما هي مبادئ العدالة التي يكون من المعقول أن يختارها وهو في وضعية تتميز بشح المعلومات وعدم اليقين ؟

يرى راولز بأن القرار العقلاني المناسب في وضعية عدم اليقين هو القرار الذي يُتخذ في ضوء مبدأ الماكسمين(*)، ومعناه الرفع من الحد الأدنى إلى حده الأقصى. وهذا مثال يوضح المبدأ المشار إليه، قدمه راولز نفسه في كتابه نظرية العدالة (1971, p. 156-154) لبيان منطق الربح والخسارة في وضعية خالية من الاستراتيجيات المتنافسة، حيث يكون الفرد في حاجة إلى مورد لا ينافسه عليه غيره؛ وأما التحدي الوحيد الذي يواجهه في هذه الحالة فهو الاختيار بين بدائل في وضعيات محفوفة بالمخاطر يكون احتمال الربح  والخسارة في كل واحدة منها متفاوتا. في هذه الظروف يتأثر الربح بالقرار المتخذ في علاقته بالوضعية وفقا للمعادلة التالية:

g = f(d, c)

(g) = الربح

(d) = نوعية القرار

(c) = نوعية الظروف

تدل هذه المعادلة على أن الربح  يتحدد بنوعية القرار ونوعية الظروف. فإذا كان عليه أن يختار بين ثلاث قرارات في ثلاث وضعيات نحصل على الجدول التالي الذي يمثل منطق الربح والخسارة، وتدل فيه الأرقام على آلاف الدراهم

Maximin principal

تقتضي العقلانية اختيار القرار الثالث، لأن أسوأ ما يمكن أن يحصل عليه في هذه الحالة هو خمسة آلاف درهم، وهي نتيجة أفضل بكثير من النتائج السلبية المترتبة عن القرارين الآخرين. ولهذا فإن اختيار القرار الثالث يمكن من تحقيق الحد الأقصى من الربح في ظروف لا تسمح عادة إلا بتحقيق الحد الأدنى من الربح. تكمن أهمية مبدأ الماكسمين في كونه يوجهنا نحو البديل الذي يمثل أهون ضرر على الإطلاق.  

وعندما يتعلق الأمر باختيار المبادئ التي تنظم البنيات الأساسية للمجتمع تصبح المسألة أكثر خطورة، وخاصة عندما يقف الشخص خلف ستار من الجهل، لا يعرف إن كان فقيرا أو غنيا، ذكرا أو أنثى، أبيضا أو أسودا، مسلما أو يهوديا أو مسيحيا أو بوذيا... حينئذ يكون من باب أولى أن يختار المبادئ التي تضمن الحد الأقصى من الخيرات لمن لا تسمح لهم الظروف عادة إلا بنيل الحد الأدنى منها؛ حتى إذا وجد نفسه في النهاية فقيرا يكون المجتمع المنظم بشكل جيد قد ضمن له الحقوق الأساسية التي تمكنه من العيش الكريم في مجتمع يتميز بالاختلاف والتعددية، وتتوزع فيه المواقع تحت تأثير عوارض الزمن. ولا يتخذ مثل هذا القرار العادل إلا الشخص العقلاني والمعقول. ولعل ما يدفع الشخص الأخلاقي إلى اختيار المبادئ التنظيمية العادلة على هدى مبدأ الماكسمين، إيمانه بالمبادئ التالية التي لابد من مراعاتها خلال عملية اتخاذ القرار:   

•    اللامساواة غير مقبولة أخلاقيا، ولا يجوز السماح بها ما لم يكن هناك مبرر معقول؛  

•    لا يجوز لأحد أن يأخذ أكثر مما يستحق بدعوى أنه يحتل موقعا من المواقع التي تحكمت في توزيعها عوارض الزمن؛    

•    لا يمكن القضاء على التعددية العقائدية إلا باستعمال سلطة الدولة، وهذا يعني القضاء على الحريات المدنية. 

وخلاصة القول، إن كون المرء معقولا هو ما يجعله مؤهلا للتعامل مع الوضعيات المحفوفة بالمخاطر وعدم اليقين، ومع المفارقات الأخلاقية العويصة، ويؤهله بالتالي للتعاقد مع الآخرين. ويلعب مبدأ المعقول كذلك دورا بالغ الأهمية في بناء الحقل العمومي كما سنبين لاحقا.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن راولز كان يعتبر نظريته في الأخلاق جزءا لا يتجزأ من نظرية الاختيار العقلاني؛ وكان قد نحا هذا المنحى في كتاب "نظرية العدالة" الصادر عام 1971، إلا أنه عدل عن هذه الفكرة في مؤلفاته المتأخرة وخاصة في كتاب "العدالة كإنصاف". كان الهدف من وراء تأليف هذا الكتاب هو مراجعة نظرية العدالة، وإضفاء مزيد من التماسك والانسجام عليها، وتصحيح بعض الأفكار من خلال إدراج متغير الحس الخلقي في معادلة سلوك الشخص الأناني العقلاني، كما سنبين ذلك تفصيلا في الجزء المخصص للسيكولوجية الأخلاقية لدى راولز.

3.    بناء الحقل العمومي

يعتبر بناء الحق العمومي ، في نظر راولز، الشرط الضروري الذي لا غنى عنه لبناء "المجتمع المنظم بشكل جيد"، تنفيذا لبنود اتفاقية التعاون الاجتماعي المنصف التي أسفرت عنها المداولات بين المتعاقدين في الوضعية الأصلية. ويتحقق شرط "العمومية" عبر ثلاث مراحل:

1.     يتحقق المستوى الأول من العمومية عندما تقتضي مصلحة جميع مكونات المجتمع قبول مبادئ العدالة التي وضعت من أجل تنظيم البنيات الأساسية للمجتمع، وعندما يعلم كل طرف بأن باقي الأطراف قد قبلوا تلك المبادئ وفقا لما يقتضيه مبدأ التماثلية. هذا فضلا عن ضرورة الاعتراف، على المستوى العمومي، بشرط الوعي المتبادل بقبول مبادئ العدالة، ومعنى ذلك أن يحصل الاعتراف العمومي بالمبدأ القائل إن قبول أي طرف لمبادئ العدالة يشترط أن يقبلها الأطراف الآخرون. ويتحقق المستوى الأول من العمومية، بالإضافة إلى ما سبق، عندما يتوفر لدى المواطنين ما يبر اعترافهم بعدالة المؤسسات الناشئة عن البنية الأساسية للمجتمع. وأما ما يبرر هذا الاعتراف فهي المعتقدات المشتركة التي أثبتت مناهج البحث وطرق الاستدلال المستعملة في معالجة القضايا المتعلقة بالعدالة السياسية وجودها في المجتمع وجودا فعليا. وهذا يقودنا فورا إلى الحديث عن مقومات المستوى الثاني من العمومية.

2.      وفيما يتعلق بالمستوى الثاني تأتي المعتقدات العامة التي تجعل المواطنين على استعداد لقبول مبادئ العدالة في مقدمة الشروط الضرورية لبناء الحقل العمومي. وتشمل هذه المعتقدات، إلى جانب تصورات الناس للطبيعة الإنسانية، المعتقدات المتعلقة بكيفية اشتغال المؤسسات الاجتماعية والسياسية وغيرها من المعتقدات التي لها علاقة بالعدالة السياسية. تمثل هذه المعتقدات والتصورات المرجعية المشتركة الضرورية لبناء مجتمع متماسك ومنظم تنظيما محكما.

3.     وأما المستوى الثالث من الحقل العمومي فيشمل المسوغات التي يحتاج إليها المجتمع من أجل تبرير التصور العمومي للعدالة. ويشترط لتحقيق المرحلة الثالثة من بناء الحقل العمومي أن تكون هذه المسوغات منتشرة على نطاق واسع بحيث يكون بوسع الجميع الاطلاع عليها والإلمام بها، وأن يستخدموها بكيفية فعالة للدفاع عن حقوقهم المشروعة في ضوء التصور السياسي للعدالة كإنصاف. يتوقف بناء الحقل العمومي، إذن، على مدى شيوع آليات التسويغ التي تدعم فكرة العدالة كإنصاف وانتشارها حتى تصبح جزءا لا يتجزأ من الثقافة العمومية، تحظى بحضور قوي في الممارسات السياسية والتشريعية وفي التقاليد الثقافية والفكرية المتعلقة بكيفية تفسير فكرة العدالة كإنصاف وتأويلها.

وخلاصة القول، إن المجتمع بوصفه نظام تعاون منصف لا يستقيم بناؤه بأي حال من الأحوال مع غياب شرط العمومية. إن بناء مجتمع كهذا لا يحصل بشكل عفوي انطلاقا من الأوهام الموروثة والمعتقدات الزائفة، بل يتحقق كتجسيد للوعي المشترك بمبادئه وآلياته. يتشكل هذا الوعي من خلال المناظرات المفتوحة التي تتناول مبررات وجود المؤسسات الاجتماعية والتي تجري وقائعها في الساحة العمومية على مرأى ومسمع من الجميع، يدلي كل طرف من أطراف الحوار برأيه في القضايا الأساسية، ويكشف عما يبرر مواقفه إزاءها وما يجعله يعتقد بجدوى تصوراته وسلوكياته. وتكمن أهمية النقاش العمومي الصريح حول أسس النظام الاجتماعي والسياسي في كونه يعزز مشاعر الثقة والتفاهم بين المواطنين وخاصة فيما يتعلق بقضايا الشأن العام.

والحقيقة أن الناس لا يميلون بشكل تلقائي إلى التصريح بما يعتمل في نفوسهم من مشاعر ومعتقدات وآراء ومواقف مما له علاقة بالنظام السياسي؛ فإن هم راودتهم شكوك حول طبيعة نظامهم السياسي، وأحسوا بأن المناخ العمومي غير سليم أو موبوء، مالوا بطبيعة الحال إلى استخدام الإستراتيجيات الدفاعية التي تقوم على التقية والتستر من أجل الحفاظ على البقاء. وتتبدد مشاعر الخوف والحذر عندما تشتغل المؤسسات وفقا لمبادئ العدالة؛ حينئذ فقط يمكن أن تنكشف وقائع الحياة السياسية وآليات اشتغالها بحيث لا يعود فيها أي شيء مما يحتاج المواطنون إلى التستر عليه أو تحقيقه عبر الآليات الماكرة للأيديولوجية الزائفة وأساليب التحايل والخداع. ويذهب راولز في تعليقه على هذه الظواهر إلى حد القول: إنه حتى في حال وجود بعض المبادئ التي يستلزم تطبيقها التستر عليها أو على الوقائع التي انبثقت منها والتي تبرر اللجوء إليها، فإن مبدأ العدالة السياسية يقتضي تركها واستبعادها؛ لأن العمل بمثل هذه المبادئ سيؤدي حتما إلى انتشار الوعي المزيف، من جهة، وإلى الحيلولة دون تنامي الحس الخلقي والإحساس بالعدالة، من جهة أخرى؛ ومعنى ذلك أيضا أنه لا مكان في "المجتمع المنظم بشكل جيد" للمبادئ المضمرة عن قصد، كما أنه لا مكان في بنيته الأساسية لما من شأنه أن يساعد على تنامي الوعي المزيف وانتشاره. ومن هنا تأتي أهمية إرساء دعائم الحقل العمومي كخطوة حاسمة في اتجاه بناء النظام الاجتماعي والسياسي على أساس من الوضوح والشفافية.

عندما يتحقق الإجماع حول أسس النظام الاجتماعي والسياسي، ويتم تشييد الحقل العمومي على أساس من الشفافية والوضوح يتنامى الوعي السياسي لدى المواطنين أكثر فأكثر تحت تأثير البنيات الأساسية للمجتمع التي تم إرساؤها، ويكونون على وعي بتأثيرها في مزاجهم العام وفي تصوراتهم وأهدافهم ونظرتهم إلى أنفسهم بوصفهم مواطنين أحرارا متساوين. ويكون من نتائج ذلك تنامي الإحساس بالعدالة، والإيمان بإمكانية تحقيق مزيد من الحرية بوصفهم أشخاصا يتمتعون بالاستقلال التام على المستوى السياسي.

وبعد أن استعرضنا الشروط التي يتطلبها بناء الحقل العمومي حسب نظرية راولز، سنحاول الآن بيان المنطق الذي يتحكم في عملية بناء هذا الحقل والإجراءات التي انبثق عنها التصور السياسي للعدالة. يرتبط هذا المنطق بالمقاربة البنائية التي تنطلق من فرضية الوضعية الأصلية من أجل تحديد مبادئ العدالة التي يمثل الإجماع حولها الخطوة الأولى في اتجاه بناء الحقل العمومي. تنطلق عملية البناء، إذن، من تحديد مبادئ العدالة التي يراد منها إرساء البنية الأساسية للمجتمع؛ ومن هنا يطرح السؤال: ما هي منهجية بناء الحقل العمومي؟ يتطلب الجواب على هذا السؤال التعريف بطرق التفكير والاستدلال التي تفرض نفسها على المتعاقدين الذين عهد إليهم بتمثيل مصالح المواطنين، في إطار الوضعية الأصلية، على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية.

سبقت الإشارة إلى أن ما يميز الوضعية الأصلية هو أن القرارات تتخذ فيها خلف ستار من الجهل. ولما كان التفكير في هذه الوضعية خاضعا للإكراهات التي يفرضها ستار الجهل، لزم أن يتحلى كل شخص فيها بفضيلة التواضع عندما ينطلق في التفكير والاستدلال. والمقصود بالتواضع هنا الاعتراف بصعوبة إصدار الأحكام، وتعليق الشرط الإبستمولوجي، والإمساك، بالتالي، عن السعي إلى الحقائق ذات الصلاحية الكونية بالمعنى الإبستملوجي للعبارة. وهكذا، فإن طريقة التفكير التي يسمح يها ستار الجهل هي طريقة متميزة؛ وأما ما يميزها فهو الانطلاق من المعتقدات المشتركة بين أفراد المجتمع ومن المصادرات الضمنية أو الصريحة التي تقوم عليها الثقافة العمومية دونما حاجة لإخضاعها لأي معيار إبستملوجي من معايير الحقيقة؛ وهذا هو ما يسمى بتعليق الشرط الإبستملوجي في نظرية راولز. 

إن ما يبرر الأخذ بأسلوب التفكير المتحرر من الضوابط الإبستملوجية الشكلية في إطار الوضعية الأصلية، في نظر راولز، هو أنه أسلوب لا يستند في أحكامه على معيار مستقل سابق على الإجراءات العملية التي تفضي إلى تلك الأحكام؛ ذلك لأن اللجوء إلى المعايير المسبقة أو المعطاة سلفا يتنافى مع مبادئ الاستقلال وحرية الإرادة والاختيار. وهكذا، فإن ما يحدد طبيعة العدالة في إطار هذه النظرية هي نتيجة الإجراءات العملية المتبعة مهما كان نوعها. يطلق راولز على هذا النوع من العدالة اسم "العدالة الإجرائية الخالصة" التي يضعها في مقابل "العدالة الإجرائية الصحيحة" التي تنطلق في بلورة أحكامها من مبادئ ومعايير معطاة سلفا.

ولما تقرر أن تكون العدالة الإجرائية هي الشكل المناسب لتنظيم العلاقات في الوضعية الأصلية، لزم أن يكون الشركاء المتعاقدون فيها أشخاصا يتمتعون بالاستقلال العقلي الذي يمكنهم من اتخاذ القرارات بحرية، بعيدا عن الإكراهات الخارجية والقوانين الإلهية. وأما ما يضمن عدالة القرارات المتخذة في سياق الوضعية الأصلية أمران: أولهما بنية المواقع الموزعة وفقا لمبدأ التماثلية؛ وثانيهما ستار الجهل الذي يمكن من تجاوز نزعة التمركز حول الذات، وضمان شرط الموضوعية في اتخاذ القرار، ويبطل بذلك أسباب التعصب والحسابات الضيقة وما ينشأ عنها من حساسيات. في ظل هذه الشروط فقط يمكن للمتعاقدين في الوضعية الأصلية وللمواطنين في الحقل العمومي بوصفهم جميعا أشخاصا يتمتعون بالاستقلال العقلي التوصل إلى اتفاقيات تعاون اجتماعي منصف في ضوء ما يعتبره كل واحد منهم شرطا ضروريا لتحقيق تصوره للخير ومصلحته الأكثر سموا.

تمثل اتفاقية التعاون الاجتماعي المنصف التي يُفترض أن يتم التوصل إليها في الوضعية الأصلية وفي المجتمع الليبرالي الديمقراطي جزءا من إستراتيجية شمولية ترمي إلى إعادة بناء النظام الاجتماعي على أسس تمكن من تحقيق المصالح الأكثر سموا للمواطنين باعتبارهم أشخاصا يتمتعون بالاستقلال العقلي. ترتكز هذه الفكرة على مصادرة أساسية مفادها أن مبدأ الاستقلال العقلي هو الذي يحدد غايات المجتمع وطبيعة المصالح الأكثر سموا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن غايات النظام الاجتماعي في فلسفة راولز مشتقة من تصوره للشخص. وكذلك يمثل مفهوم الشخص المستقل من الناحية العقلية الأساس النظري الذي اشتقت منه مقولة المصالح الأكثر سموا. والمقصود بالمصالح الأكثر سموا تلك المصالح التي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تنظيم المجتمع بطريقة تمكن من تفعيل وتنمية الملكتين الأخلاقيتين اللتين تؤهلان المواطنين لأن يصبحوا أحرارا متساوين، قادرين على التعاون فيما بينهم على مدى الحياة، وهاتان الملكتان هما: الإحساس بالعدالة، من جهة، والقدرة على تشكيل تصور للخير وتحقيقه، من جهة أخرى.

تكتسي هذه الفكرة أهمية بالغة في فلسفة راولز، فهي تكشف، عن منظومته القيمية التي يحتل فيها التعاون، الذي يندرج ضمن المصالح الأكثر سموا، مكانة الصدارة مقارنة مع المصالح الفيزيولوجية والمادية؛ هذا من جهة، وتكشف من جهة أخرى، عن تصوره للعلاقة بين الفرد والنظام الاجتماعي: إنها علاقة تفاعل متبادل بين المكونات الذاتية للشخص والهيكل البيذاتي للنظام الاجتماعي. ومن مظاهر هذه العلاقة أنه عندما ينظر المواطنون إلى أنفسهم على أنهم أحرار متساوون يدركون أنه من مصلحتهم أن يتم تنظيم المجتمع الذي يعيشون فيه على النحو الذي يمكن من تنمية القدرات الأخلاقية لكل فرد والارتقاء به إلى مستوى الشخص المؤهل للتعاون مع الأشخاص الآخرين على مدى الحياة. هنا وعلى وجه التحديد تكمن المصلحة العليا للمواطنين بوصفهم أشخاصا يتمتعون بالاستقلال العقلي.

وليس الاستقلال العقلي في نظر راولز سوى مظهر من مظاهر الحرية الفردية، وهذا ما يجعله مختلفا عن "الاستقلال التام" بالمعنى السياسي للعبارة. ولابد من التذكير في هذا السياق بأن مفهوم "الاستقلال العقلي" في فلسفة راولز لا يحيل على كائنات واقعية أو تاريخية، وإنما هو جزء من إجراءات العقل النظري أو عنصر من عناصر التجربة النظرية التي ترمي إلى إعادة بناء المجتمع وتنظيمه على أسس معقولة. ومن ثمة، فإن مفهوم الشخص المستقل إنما يشير في دلالته الأصلية عند راولز إلى كائنات مفترضة تم خلقها من أجل تفعيل الوضعية الأصلية. ومما يدل على ذلك قوله، في معرض حديثه عن الاستقلال العقلي، إنه "اصطناعي وليس سياسيا"، لارتباطه بوضعية مفترضة يكون فيها المتعاقدون غير خاضعين لأية سلطة خارجية، وعلى مسافة من المذاهب الدينية والفلسفية والأخلاقية الموجودة في محيطهم الثقافي.

ذلك أنه لو ظل كل طرف من أطراف المعاهدة متشبثا بمذهبه العقائدي أو الفكري خلال المداولات وعمليات اتخاذ القرار بشأن مبادئ العدالة التي ستنظم البنية الأساسية للمجتمع؛ ولو أن كل واحد منهم أراد أن يختار من مبادئ العادلة ما ينسجم فقط مع معايير مذهبه لما اتفقوا على شيء ذي بال، ولظلت غايتهم محصورة ضمن حدودها الدنيا المتمثلة في ضمان تلبية الحاجات الفيزيولوجية للمواطنين. وفي مثل هذه الظروف، تظل الحتمية البيولوجية هي سيدة الموقف عبر تعاقب الأجيال. ولتجاوز هذه الحتمية جعل راولز من ستار الجهل القاعدة التي تنظم المداولات بين المتعاقدين في الوضعية الأصلية، وتجعل من هؤلاء شركاء بدل أن يكونوا فرقاء. تكمن وظيفة هذه القاعدة، إذن، في الارتقاء بالشركاء إلى مستوى الأشخاص الذين يتمتعون بالاستقلال العقلي، وتجعلهم بذلك قادرين على اتخاذ القرارات بعيدا عن أية ضغوط خارجية؛ وعندما يتحررون من كافة الإكراهات الخارجية يظل هناك إكراه واحد لا مناص لهم من الامتثال له، وهو الإكراه الذي تفرضه قاعدة ستار الجهل. إن الالتزام بهذه القاعدة هو الذي يجعل المتعاقدين قادرين على تمثل المصالح الأكثر سموا للمواطنين، وعلى اختيار مبادئ العدالة الكفيلة بتحقيقها.

وخلاصة القول: إنه من مصلحة الجميع أن يتنامى الإحساس بالعدالة في المجتمع. وليس هناك من سبيل لتحقيق هذه المصلحة الجوهرية سوى إعادة تنظيم المجتمع وحقله العمومي على أسس عقلانية ومعقولة وبكيفية خلاقة: والمقصود بذلك تنظيم البنيات الأساسية للمجتمع بحيث تخلق ديناميتها المستمرة مناخا يساعد على تنمية روح المواطنة التي تتجلى من خلال القدرة على التعاقد والالتزام بالعقود المبرمة، والقدرة على فهم وتطبيق مبادئ العدالة التي حصل عليها الإجماع. ولكن، كيف يمكن تحقيق المصالح الأكثر سموا؟ هل يتأتى ذلك بمعزل عن تحقيق المصالح المادية والفيزيولوجية ؟

تجدر الإشارة بهذا الصدد إلى أن راولز لا يفصل بين ما يسميه "الخيرات الأولية" والمصالح الأكثر سموا؛ فهو يرى أن توفير الخيرات الأولية خطوة ضرورية في اتجاه تحقيق المصالح الأكثر سموا؛ بل إنه جعل من توفر الخيرات الأولية المعيار الأساسي لاختيار مبادئ العدالة في إطار الوضعية الأصلية. ومعنى ذلك أن المبادئ الصالحة لتنظيم المجتمع بشكل جيد هي تلك التي تضمن إمكانية توفير الخيرات الأولية كمرحلة ضرورية لتحقيق الغايات القصوى للنظام الاجتماعي. وتشمل الخيرات الأولية: الحقوق الاقتصادية والسياسية والحريات الأساسية والشروط الاجتماعية للاعتبار الذاتي. وتعتبر هذه الخيرات من جملة الوسائل الضرورية لتحقيق المصالح الأكثر سموا؛ فعلى ضوئها ينتقي المتعاقدون في الوضعية الأصلية تلك المبادئ التنظيمية التي تمكن من تفعيل الملكات الأخلاقية والارتقاء بها إلى أعلى المراتب في سلم النمو. وهذا يقودنا للحديث، بطبيعة الحال، عن السيكولوجية الأخلاقية التي رسم راولز معالمها الكبرى في مؤلفه المشهور "نظرية العدالة".

 



([1])John Rawls (1971). A theory of justice. Oxford University Press.

([2]) John Rawls (1958). Justice as fairness.  Philosophical Review Vol. LXVII. 1958

([3])  John Rawls (1993). Libéralisme politique. Traduit de l’américain par Catherine Audard. Paris : PUF. p. 138

([4])  John Rawls (1993). LP. p. 132.

([5] ) John Rawls (1993). LP. p. 128.

([6])John Rawls (1993). LP. p. 8

([7]) John Rawls (1993). Libéralisme politique. p. 127.

([8])  John Rawls (1971), A Theory of Justice. p. 119

([9]) John Rawls (1971), A Theory of Justice.. p. 61.

([10]) John Rawls (1971), A Theory of Justice. p. 12.

([11]) John Rawls (2003). La justice comme équité : Une reformulation de la théorie de la justice. Traduit de                 l’anglais par Bertrand Guillaume. Paris : Editions de la Découverte, p. 23

 

(*) كلمة الماكسمين maximin كلمة مركبة تجمع بين كلمة maximum الحد الأقصى،  وكلمة minimum الحد الأدنى؛ وأما صيغتها التحليلية فهي.maximum minimirom .

([12]) John Rawls (2003). La justice comme équité : Une reformulation de la théorie de la justice. Traduit de  

      l’anglais par Bertrand Guillaum. Paris : Editions de la Découverte, p. 11

([13]) John Rawls (2003). La justice comme équité. p. 265.

([14]) John Rawls (2003). Ibid

([15]) W. M. Sibley. The Rational Versus the Reasonable. The Philosophical Review, Vol. 62, No. 4 (Oct., 1953),  

      pp. 554-560

([16]) John Rawls (1993). Libéralisme politique. p. 76,  note n° 1.

 ([17]) إمانويل كانت (2002). تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق. ترجمة د. عبد الغفار مكاوي. كولونيا – ألمانيا.، ص. 81.

([18]) إمانويل كانت، نفس المرجع السابق ونفس الصفحة.

([19]) نفس المرجع السابق، ص. 140.

([20])نفس المرجع السابق، ص. 82.

([21]) نفس المرجع السابق، ص. 120.

([22]) نفس المرجع السابق، ص. 142..

([23]) John Rawls (1996). Libéralisme politique p. 78

([24]) Ibid. p. 79

([25]) Ibid. p. 79

([26]) John Rawls (2001). La justice comme équité. p. 25. 

([27])John Rawls (1996). Libéralisme politique. أنظر بهذا الخصوص ص. 83 وما يليها

Partager cet article
Repost0
28 mai 2011 6 28 /05 /mai /2011 19:36

الليبيرالية السياسية ومبادئها الأخلاقية

مدخل إلى فلسفة جون راولز

تابع

أحمد أغبال

 .

موضوع علم النفس الخلقي وغايته في فلسفة جون راولز

من المفترض أن تكون للمواطنين الذين يقبلون إكراهات العقل العمومي عن طيب خاطر، ولا يمانعون في الخضوع للسلطة المعقولة، سمات مخصوصة. وإذا تقرر هذا، لزم أن تصبح سمات هؤلاء المواطنين موضوعا لعلم خاص، تتعدى تحليلاته المستوى الوظيفي إلى البحث في المبادئ والقوانين الكامنة خلف تشكل وتنامي روح المواطنة بأبعادها النفسية والخلقية، وهذا العلم هو علم النفس الخلقي الذي هو علم السلوك المعقول؛ وربما أصبح الانشغال بهذا الموضوع شرطا لتأسيس كل علم من العلوم الإنسانية مهما كان نوعه. يقول راولز بهذا الصدد:

"ولعل أبرز خاصية من الخصائص المميزة لهذه القوانين (أو الميول) هو أن صياغتها تحيل على المحيط المؤسساتي بوصفه عادلا...وباعتباره معروفا لدى العموم بوصفه كذلك. إن لتصور العدالة، إذن، مكانته بين مبادئ علم النفس الأخلاقي. وهكذا، فإن تصور العدالة على أي نحو من الأنحاء يدخل في تفسير ما يقابله من المشاعر؛ فالفرضيات المتعلقة بالعمليات النفسية توظف المفاهيم الأخلاقية سواء اعتبرت هذه المفاهيم جزءا من النظرية السيكولوجية أم لم تعتبرها كذلك"([1])  

ليس هناك إذن ما يمكن أن يحول دون توظيف المفاهيم الأخلاقية في الدراسات الاجتماعية والنفسية، بل إن إقصاءها يعتبر، برأي راولز، خطأ فادحا؛ وحجته في ذلك أن المشاعر الأخلاقية محايثة لبنية الطبيعة الإنسانية، شديدة الصلة بميلها الفطري للاجتماع والمعاشرة؛ وبالتالي، فإن استبعادها وعدم أخذها بعين الاعتبار في الدراسات التي تتناول المواقف والاتجاهات يعني بتر موضوع الدراسة وتفكيكه. إن ما يريد التأكيد عليه هو أن العنصر الأخلاقي يندرج على نحو من الأنحاء ضمن التكوين المميز للطبيعة السيكولوجية للإنسان، وسواء تعلق الأمر بمضمونها أو بسياقها الاجتماعي والمؤسساتي. ولكن، كيف تتحدد العلاقة بين البعد الأخلاقي للإنسان وطبيعته النفسية منظورا إليها من زاوية علم النفس؟

يقدم راولز الجواب على هذا السؤال في كتابه "الليبرالية السياسية"، أورده في الجزء الثامن من المحاضرة الثانية تحت عنوان مثير: "السيكولوجيا الأخلاقية: فلسفية لا سيكولوجية". يقول في مستهل هذه الدراسة موضحا تصوره للسيكولوجيا الأخلاقية:

".. وأؤكد على أنها سيكولوجيا أخلاقية مستمدة من التصور السياسي للعدالة كإنصاف. وهذه السيكولوجيا لم تنبثق من العلم المختص في دراسة الطبيعة الإنسانية، بل صدرت عن هيكل المفاهيم والمبادئ المستخدمة للتعبير عن تصور سياسي للشخص ومثل أعلى للمواطنة"([2])  

يستمد علم النفس الأخلاقي، حسب نظرية راولز، مبادئه من هيكل نظري معياري، وتكمن وظيفته عنده في بناء تصور سياسي للشخص يساعد على تحقيق مثل أعلى للمواطنة. وإذا كانت هذه السيكولوجيا لا تنحدر من صلب العلوم التي تهتم بدراسة الطبيعة الإنسانية، فإنها تولي مع ذلك أهمية خاصة للتأثيرات المحتملة للعوامل المرتبطة بالطبيعة الإنسانية في التصورات والتوجهات الأخلاقية للمواطنين. يقول راولز:

"إن الطبيعة الإنسانية وسيكولوجيتها الطبيعية مرنتان إلى حد الإباحية: بإمكانهما أن تضعا حدودا لتصوراتنا للشخص وللمثل العليا للمواطنة القابلة للبقاء والاستمرار، وللسيكولوجيات الأخلاقية التي تدعمها، ولكنها لا تستطيع أن تملي علينا تلك التي يتوجب علينا الأخذ بها"([3])

يفهم من هذا القول أن الطبيعة الإنسانية، بحكم نوازعها الفطرية الإباحية، لا تنطوي في ذاتها على السبب الكافي لبروز المشاعر الأخلاقية ونموها. ولكن هذا النقص لا يبرر إسقاطها من المعادلة الأخلاقية، ما دامت تؤثر في تلك المشاعر بشكل من الأشكال من خلال رسم الحدود لحقل الممكنات.  وعلى هذا يرى راولز بأن المثل العليا للمواطنة تستلزم توفر تصور للطبيعة الإنسانية ونظرية اجتماعية من أجل تحديد تصور للشخص المعقول يتناسب مع ما تسمح به الوقائع العامة المتصلة بالطبيعة الإنسانية، من جهة، وبالمجتمع من جهة أخرى. وفي غياب هذا الشرط، يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تحقيق التصور السياسي للعدالة والمثل الأعلى للمواطنة. يتعلق الأمر بالبحث في شروط بناء نظام سياسي يكون من المعقول جدا أن يُتوقع من المواطنين قبول سلطته والانقياد لقراراته، والانخراط في التعاون مع بعضهم البعض على مدى الحياة.

ومن هنا تأتي أهمية علم النفس الأخلاقي بوصفه الوسيلة التي تمكن من بلورة وتحقيق تصور سياسي لمفهوم الشخص ومثل أعلى للمواطنة يكونان على قدر كبير من الانسجام مع الطبيعة الإنسانية في سياقها الاجتماعي. تلك هي مقاصد هذا العلم، وأما موضوعه فيتمحور حول الإحساس بالعدالة والمشاعر الأخلاقية، ويشمل البنيات الاجتماعية والسياسية التي تكيف سيرورتها النمائية. ولقد خصص راولز لهذا الموضوع فصلا كاملا في كتابه "نظرية العدالة" تحت عنوان "الإحساس بالعدالة" ، وقدم فيه وصفا تحليليا وافيا للإحساس بالعدالة وما يرتبط به من مشاعر أخلاقية، وبين كيفية تشكل ونمو القدرات الأخلاقية للمواطن المعقول، والمراحل التي تمر بها خلال سيرورتها النمائية، والقوانين التي تقف خلف هذه العمليات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإحساس بالعدالة بمثل، في إطار هذه النظرية، أرقى مرتبة من مراتب النمو الأخلاقي؛ وحدده كما يلي:  

"إن الإحساس بالعدالة هو، قبل كل شيء، استعداد ثابت للأخذ بوجهة النظر الأخلاقية والعمل بمقتضياتها بقدر ما تحددها مبادئ العدالة على الأقل"([4])

يستفاد من هذا التعريف أن السيكولوجية الأخلاقية تتشكل وتنمو في انسجام مع مبدأ العدالة كإنصاف. إن دراسة النمو الخلقي، من وجهة النظر هذه، هي قبل كل شيء دراسة كيفية تشكل ونمو الإحساس بالعدالة وما يرتبط به من مشاعر أخلاقية. هذا هو الموضوع الأثير لعلم النفس الأخلاقي كما يتصوره راولز. وسوف نقدم فيما يلي عرضا سريعا لمراحل النمو الخلقي كما يتصورها راولز.

1.3.    مراحل النمو الخلقي حسب نظرية راولز

ينطلق راولز في دراسته لمراحل النمو الخلقي من التسليم بالقضية التالية: يحتاج النمو الخلقي لكي يتحقق إلى تنظيم المجتمع بشكل جيد، وكذلك فإن الإحساس بالعدالة هو الكفيل بإعادة التوازن لهذا المجتمع وضمان استقراره كلما تعرض لشتى أنواع الاختلالات والهزات. ويمر الإحساس بالعدالة خلال سيرورته النمائية بثلاث مراحل لها علاقة بمراحل العمر في حدود معينة، من جهة، ومراحل اندماج الفرد في المجتمع، من جهة أخرى؛ ويأتي هذا النمو كاستجابة للميل الطبيعي في الإنسان إلى التعامل بالمثل وفقا لمبدأ التبادلية. وهذه المراحل هي:

أخلاق السلطة

أخلاق التشارك

أخلاق المبادئ

أولا - أخلاق السلطة: وهي أخلاق مرحلة الطفولة. تتشكل، بطبيعة الحال، تحت تأثير سلطة الوالدين داخل الأسرة التي تندرج ضمن البنيات الأساسية للمجتمع. يحتل الطفل في بنية السلطة خلال هذه المرحلة موقعا لا يؤهله لتقدير مدى صلاحية القواعد والأوامر الصادرة عن مراكز السلطة والقرار، خاصة وأن مداركه العقلية لا زالت في مراحل نموها الأولى، ولذلك يفتقر إلى القدرة على التسويغ والحجاج والإقناع، ولا يستطيع مقاومة الأوامر والنواهي التي يفرضها عليه والداه. وإذا كانت الأسرة مؤسسة من مؤسسات المجتمع المنظم بشكل جيد، فإنه من الفروض أن نسلم بصلاحية القواعد والتوجيهات الأسرية ومعقوليتها. ولكن الطفل لا ينظر إلى الأمور من هذه الزاوية لاعتبارات لها علاقة بميوله الفطرية، ومن أهمها:

          أنه يميل بالفطرة وبشكل عقلاني إلى تحقيق رغباته الذاتية أو ما يسميه راولز "المصلحة الذاتية العقلانية"؛

          ولا يمتلك القدرة على إدراك وفهم نوايا الوالدين ومقاصدهما، ولا القدرة على تقدير مدى أهمية الأوامر والنواهي؛

          وكذلك تعوزه القدرة على التسويغ، فهو لا يستسيغ مطلب الخضوع لسلطة الوالدين ولا يمتلك القدرة على إيجاد مبرر مقبول لمطلب الامتثال والخضوع لها؛ ولا يستطيع، في نفس الوقت، وضعها موضع شك وتساؤل ونقد استنادا إلى مبرر مقبول؛

         ولا يميل بالفطرة إلى حب الوالدين.

والنتيجة المحتومة هي أنه لا يوجد لدى الطفل ميل فطري للامتثال للسلطة. ومن هنا يطرح السؤال: كيف يمكن ترويضه لقبول سلطة الوالدين وتأهيله لقبول قرارات السلطة السياسية في المراحل اللاحقة من العمر؟

يحصل التحول في هذا الاتجاه بفضل القانون السيكولوجي الأول الذي يمكن صياغته على النحو التالي: إذا أحب الوالدان طفلهما، تولد حب الوالدين في نفسه كرد فعل، فيبادلهما حبا بحب؛ وكلما زاد حب الوالدين لطفلهما، زاد حبه لهما. وتتجلى محبة الوالدين للطفل من خلال مجموعة من السلوكات التي تكشف له عن  نواياهما الواضحة للعناية به، ومن أهما:

        مساعدته على تحقيق مصالحه الذاتية العقلانية؛

         دعمهم لشعوره بالاعتبار الذاتي، وتأكيد تصوره لذاته وتثمينه؛

         مساعدته على تحقيق رغبته في الاستقلال وتحمل المسؤولية.

وبفضل هذه السلوكات تتشكل مشاعر وعواطف جديدة لدى الطفل. فعندما يتأكد من حب والديه له من خلال التجربة الحية التي تنكشف فيها النوايا الواضحة للعناية به، يطمئن على نفسه ليقينه أن أولئك الذين يمثلون السلطة في محيطه لا يكنون له المحبة لانضباطه، بل يحبونه لكونه شخصا جديرا بالاحترام، يستمد قيمته من ذاته، ويكون مجرد حضوره أو وجوده في البيت مصدرا للبهجة والمسرة.. وعندما ترتبط محبة الوالدين بالخبرة الحية للطفل بوصفها محبة خالصة غير مشروطة، تزداد ثقته بنفسه، فيتولد لديه الشعور بالاعتبار الذاتي ويتنامى؛ وعن هذا الشعور ينشأ حبه لوالديه، ويطرح نفسه كرغبة في إسعادهما من خلال الإذعان لأوامرهما ونواهيهما. ومن ثمة، تتشكل المشاعر الأخلاقية كنتيجة للقانون السيكولوجي الأول. فإذا كان الطفل يحب والديه، ويضع ثقته فيهما، وحصل أن انساق مع المغريات وخرق بعض القواعد فإنه لابد وأن ينتابه شعور بالذنب؛ وبلعب هذا الشعور دور القوة الدافعة للاعتراف بالخطأ.

وخلاصة القول، إن الشعور بالذنب هو شعور أخلاقي، ينبثق عن التفاعلات الإيجابية التي يحكمها القانون السيكولوجي الأول. وعليه، فإن أي خرق للقواعد لا يصاحبه شعور بالذنب لهو الدليل القاطع على انعدام مشاعر المحبة والثقة في العلاقات الأسرية. ومن هنا يلزم التمييز بين الشعور بالذنب والخوف من العقاب. فعندما يكون الجو الأسري خاليا من مشاعر المحبة والثقة، يكون الشعور المهيمن على الأطفال هو الخوف من العقاب.

ثانيا - أخلاق التشارك: إذا كانت أخلاق السلطة تتأسس على القواعد والتوجيهات (الأوامر والنواهي) التي يتوجب على الفرد الامتثال لها، فإن أخلاق التشارك تشمل المعايير الأخلاقية والنماذج المثلى المرتبطة بمواقع الأفراد وأدوارهم في المنظمات الاجتماعية. تُطبع هذه المعايير والقيم في نفوس الأفراد بواسطة مجموعة من الإجراءات والإشارات التي تصدر عن مراكز السلطة والقرار في المنظمات (الأسرة، المدرسة..) أو عن مجموعات العمل التي ينتمون إليها، والتي تدل على الاستحسان أو الاستهجان.

تتشكل أخلاق التشارك تدريجيا كلما تقدم المرء في السن، وانتقل من موقع اجتماعي إلى آخر، ومن دور إلى آخر. وكلما تغير الدور والموقع، اضطر الفرد إلى اكتساب معايير وقيم جديدة، فيتمثلها ثم يستبطنها، وتطرح نفسها في شكل نماذج مثلى لما ينبغي أن يكون عليه صاحب الدور أو الموقع الجديد، بحيث يمكن الحديث عن التلميذ النموذجي، والأستاذ النموذجي، والزوج النموذجي، الخ. ومع مرور الزمن، يكتسب القدرة على فهم النماذج الجديدة وتفسيرها في ضوء أهداف المنظمة أو المؤسسة أو الجمعية التي ينتمي إليها، وعندئذ يتاح له تشكيل تصور واضح، إلى هذا الحد أو ذاك، عن نظام التعاون الشمولي الذي يحدد طبيعة المنظمة ووظائفها وأهدافها وغاياتها. ولما كان الفرد ينتمي في نفس الوقت إلى العديد من المؤسسات والتنظيمات، كان لابد أن يكتسب أنواعا عديدة من النماذج المثلى التي تتناسب مع مختلف المواقع والأدوار، وأن يجمع بينها في إطار توليفة واحدة.

ولما كانت أخلاق التشارك تجمع في توليفة واحدة بين نماذج مثلى تتنوع بتنوع الانتماءات الاجتماعية للفرد، فإن اكتسابها يستلزم تنمية مجموعة من القدرات الخاصة، وفي مقدمتها القدرة على فك طوق التمركز حول الذات، والنظر إلى الأشياء من منظورات الآخرين الذين يحتلون مواقع مختلفة في المنظمات. عندما يكتسب المرء هذه القدرات يكون قادرا على إدراك الروابط التي تجمع بين النماذج المثلى في إطار نظام تعاون واحد. ولكن اكتساب هذه القدرات يستلزم تنمية القدرة على إدراك نوايا الآخرين ودوافعهم ومشاعرهم ومقاصدهم. ويجب التذكير هنا بأن ما يميز البنية المعرفية للطفل، مقارنة بالبنية المعرفية للراشد، هو انعدام أو ضعف القدرة على إدراك النوايا والمشاعر والمقاصد؛ وهذا ما يفسر عجز الطفل على رؤية الأشياء من منظورات متعددة.

إن القدرات المذكورة مجتمعة هي التي تجعل من أفراد المجتمع مواطنين مؤهلين للانخراط في نظم التعاون. ينبغي أن يكون الفاعلون في المنظمات أو المؤسسات الاجتماعية على علم بأن أية قضية أو مشكلة تبدو مختلفة لمن ينظرون إليها من مواقع مختلفة، وأن يعلموا بأن للفاعلين الذين يحتلون مواقع مختلفة في تلك المنظمات دوافع وأهداف واستراتيجيات مختلفة، وأن يكتسبوا القدرة على اكتشافها وتقييمها من خلال فحص خطابهم وسلوكهم، كل ذلك من أجل العثور على نقط ارتكاز إستراتيجية للتشارك والتعاون.

تلك إذن هي متطلبات المرحلة الثانية من مراحل النمو الخلقي. فعندما يكتسب الفرد القدرة على إدراك نوايا ومشاعر زملائه في العمل، وتتشكل الروابط العاطفية بينهم بحكم القانون السيكولوجي الأول؛ وعندما يفصح زملاؤه عن نية واضحة في العمل وفقا لما يقتضيه الواجب، تظهر مشاعر الصداقة والثقة المتبادلة، وتنمو باستمرار في مناخ سليم ومحفز على العمل. وهذا هو القانون السيكولوجي الثاني. يمكن صياغة هذا القانون في عبارة أخرى:عندما يلج شخص حقلا من حقول العمل، ويشعر بأن أعضاء التنظيم الجديد يمارسون نشاطهم بحماس، ويدرك نواياهم الواضحة لأداء واجباتهم على أحسن وجه، وعندما يظهرون له ولاءهم للمنظمة، ويعلنون اعترافهم بأن المبادئ التي يقوم عليها التنظيم عادلة ومنصفة، ويتأكد من أن ما يراه ويسمعه صحيح، ومن أن ما يحركهم هي الإرادة الصالحة الخيرة، تنبعث مشاعر الثقة في نفسه والرغبة في التماهي بهم، فيندمج في مجموعة العمل اندماجا كليا، فتتآلف القلوب، وتتوطد أواصر الصداقة بينه وبين أعضاء التنظيم، وتقوى وشائج المحبة والثقة المتبادلة بينهم. وهذا ما يجعله يستبطن المعايير والمثل العليا المرتبطة بموقعه الجديد في نظام التعاون. وعندما تتقوى الروابط بين أعضاء مجموعة العمل، تزداد الرغبة في التعاون والتشارك؛ ويشعر الفرد بالذنب عندما يقوم بتقييم عمله ويدرك أنه قصر في أداء واجباته.

ولعل أهم ما يميز أخلاق التشارك هو أن الدوافع إلى إتقان العمل والتعاون مع الآخرين هي بواعث نفسية، وفي مقدمتها الرغبة في التماهي مع الزملاء الجادين في العمل والرغبة في نيل رضاهم. فإذا كان الفرد يعمل كل ما بوسعه لأداء وظيفته على أحسن وجه، فإنما يسعى من وراء ذلك إلى خلق انطباعات طيبة في نفوس الآخرين عن ذاته من أجل الحصول على مفعول رجعي إيجابي وإشارات تنم على الاستحسان؛ والقصد من ذلك كله يكمن في نيل رضاهم. وعلى هذه الخلفية تتشكل المشاعر الأخلاقية المصاحبة لعملية اكتساب النماذج المثلى المرتبطة بالمواقع والأدوار في المنظمات الاجتماعية تحت تأثير القانون السيكولوجي الثاني. ويرى راولز أن:

”غياب هذه الميول [المشاعر الأخلاقية كشعور بالذنب] يدل على غياب روابط الصداقة والثقة المتبادلة“ إن الشخص الذي ينقصه الشعور بالذنب لا يحس بالعبء الملقى على كاهل الآخرين، ولا يصاب بالحرج والانزعاج إزاء شعورهم بالخيبة من نكثه للعهد وخرقه للثقة الموضوعة فيه"[5]

يفرض القانون السيكولوجي الثاني نفسه بطريقة لا تختلف عن طريقة اشتغال القانون السيكولوجي الأول؛ فكما أن روابط المحبة تنشأ عن القانون الأول داخل الأسرة خلال المرحلة النمائية الأولى (أخلاق السلطة)، كذلك تتشكل روابط الصداقة ومشاعر الثقة في المنظمات والمؤسسات الاجتماعية عن القانون الثاني خلال المرحلة النمائية الثانية. يخضع النمو الخلقي، إذن، لقوانين سيكولوجية أشبه ما تكون بالقوانين الطبيعية، عنها تنشأ المشاعر الأخلاقية، وهي التي تتحكم في نموها وتطورها. تتجلى هذه المشاعر بطرق مختلفة، وتفصح عن نفسها من خلال الاعتراف الصريح بالخطأ وخرق القواعد والمعايير، والرغبة الملحة في تصحيح الحيف أو الأذى الذي لحق بالآخرين من جراء ذلك.

وهكذا تطرح الآلية الأخلاقية نفسها كبديل عن أساليب الزجر والعقاب التي تولد مشاعر الخوف والحذر؛ ومن حسناتها أيضا أنها تزيد من قدرة الفرد على التحكم في الذات، وضبط النفس، وتجنب الوقوع في حومة الغضب والاستياء. ويدل غياب المشاعر الأخلاقية في حياة العمل داخل المنظمات على تفكك الروابط الاجتماعية الأساسية وانتفاء مشاعر المحبة والصداقة والثقة التي يقوم عليها نظام المجتمع بوصفه نظام تعاون منصف. ويعتبر فقدان الحس الخلقي وتفكك الروابط الاجتماعية في المنظمات ضربا من ضروب الاستلاب الذي يسميه إميل دوركايم بالأنوميا، ويسمى في علم النفس الاجتماعي الأنجلوسكسوني بفقدان المعايير؛ وتسمى المنظمات التي تعاني من هذه الأعراض المرضية بالمنظمات الأنيمية.

ثالثا: أخلاق المبادئ: إذا كانت السمات المميزة للشخص الذي ولج مرحلة أخلاق التشارك تتلخص في نيته الواضحة للعمل وفقا للمعايير والمثل العليا المرتبطة بموقعه في المنظمة أو المؤسسة الاجتماعية التي يشتغل فيها، فإن ما يميز الشخص الذي بلغ المرحلة الثالثة هو إيمانه العميق بمبادئ العدالة الأكثر سموا وإنصافا. فإذا كان الشخص في مرحلة أخلاق التشارك يرغب في أن يصير أستاذا نموذجيا، فإنه أصبح الآن يرغب في أن يكون عادلا..يقول راولز:

”إن فكرة الفعل العادل والعمل على تطوير المؤسسات العادلة، أصبح لها عنده [في المرحلة الثالثة] جاذبية شبيهة بجاذبية النماذج المثلى..“([6])

ولهذه المرحلة قانون سيكولوجي خاص بها، نصوغه على النحو التالي: عندما تتشكل مشاعر المحبة والصداقة والثقة المتبادلة بفعل القانون الأول والقانون الثاني، يظهر الميل إلى الاعتراف بعدالة المؤسسات، ولا يتحقق ذلك ما لم يشعر العاملون فيها بأن جميع الأفراد والمجموعات يستفيدون من مواردها بشكل منصف، وينتج من ذلك إحساس بالعدالة، ويطرح نفسه كآلية من آليات الضبط الاجتماعي التي تلعب دورا أساسيا في الحفاظ على توازن المجتمع واستقراره من خلال تقوية الروابط الاجتماعية. يقول راولز عن هذا: ”بدون إحساس مشترك بالعدالة لن يكون لروابط الحياة المدنية وجود“([7]). ويفصح الإحساس بالعدالة عن نفسه بطريقتين:

-         يتجلى في المقام الأول من خلال الاعتراف بالمؤسسات العادلة وقبول سلطتها. ولا يظهر الأفراد ولاءهم لها، ولا ينقادون طواعية لقراراتها ما لم يتيقنوا من أنها تخدم مصالح الجميع؛ وإن هي بدت لهم عادلة منصفة للجميع، تراهم يبذلون كل ما بوسعهم للحفاظ على نظامها واستقرارها كرد فعل إيجابي تلقائي، ويشعر الفرد بالذنب كلما أخل بواجباته والتزاماته إزاءها.

-         ويتجلى الإحساس بالعدالة أيضا من خلال الرغبة في العمل من أجل بناء المؤسسات العادلة أو إصلاح المؤسسات القائمة، والرغبة في توسيع مجال تطبيق مبادئ العدالة. ويشعر الشخص بالذنب كلما تصرف بطريقة مناقضة لإحساسه بالعدالة.

يتبين من خلال عرض مراحل النمو الخلقي الثلاث بأن السيرورة النمائية تجري في كل مرحلة وفقا لمبدأ التبادلية المتأصل في الطبيعة الإنسانية. ففي المرحلة الأولى، تنبثق مشاعر المحبة في وجدان الطفل إن شعر بأنه محبوب، فيبادل والديه حبا بحب، وعندما يصبح شابا، ويلتحق بمؤسسات اجتماعية أخرى، تبدأ المرحلة النمائية الثانية، فتتشكل مشاعر الصداقة والثقة والمسؤولية إذا تعامل معه أعضاء المظمة وفقا لهذه القيم؛ وعندما ينضج ويصبح راشدا، يستبطن قيم العدالة إن هو أحس بأن المواطنين يتعاملون معه في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية وفقا لقواعد الاحترام المتبادل ومبدأ الإنصاف. وهذا يدل على أن النمو الخلقي يتحقق من خلال عمليات التفاعل العاطفية-الوجدانية؛ فإذا كانت هذه العمليات تجري وفقا لمبدأ التبادلية، أدى ذلك إلى تنامي الإحساس بالعدالة.

ويرى راولز أن أهم ما يميز كل مرحلة من المراحل النمائية عن غيرها هو نوعية الرغبات التي يصبو الفرد إلى تحقيقها. ومن هذه الوجهة، فإن النمو الخلقي هو عملية الانتقال من نوع معين من الرغبات إلى نوع آخر، كما هو مبين في الخطاطة التالية:

 

Rawls

ويتخذ الشعور بالذنب في كل مرحلة دلالة خاصة: فهو يرتبط في المرحلة الأولى بعدم الامتثال لسلطة الوالدين وخرق قواعد السلوك. فبما أن قدرة الطفل على إدراك النوايا والمقاصد وفهم المثل العليا وغيرها من المجردات ضعيفة جدا أو منعدمة في هذه المرحلة من العمر، فإنه من المنطقي أن لا يكون للشعور بالذنب المترتب عن الإخلال بالمبدأ وجود في تجاربه الشعورية.

ويرتبط الشعور بالذنب في المرحلة الثانية بعمليات التفاعل بين أعضاء مجموعة العمل. تتشكل المشاعر الأخلاقية في هذه المرحلة حول روابط الصداقة والثقة التي تنسج مع بعض الشخصيات النموذجية، ويكون الدافع إلى السلوك الأخلاقي في هذه الحالة هو الرغبة في نيل رضا تلك الشخصيات وتقديرهم. وهنا يتخذ الشعور بالذنب دلالة خاصة تنم عن الخجل أمام الآخرين والخوف من فقدان تقديرهم له، ومن ثمة فقدان الاعتبار الذاتي.

ويتخذ الشعور بالذنب في المرحلة الثالثة دلالة خاصة تنم عن توبيخ الضمير كنتيجة لعدم الوفاء للمبدأ. والأصل في ذلك هو أن المبدأ الذي تقوم عليه الأخلاق في هذه المرحلة لا يحسب حسابا للعوائد الذاتية أو العرضية؛ فهي تنبني على تصور للحق يتجاوز الرغبات الذاتية كالرغبة في تحقيق الرفاهية ورغد العيش والرغبة في نيل رضا الآخرين وتقديرهم. ففي هذه المرحلة يصبح الحس الخلقي مستقلا عن العوارض كما هو الحال في الوضعية الأصلية التي وصفناها.

إن ما يميز الشخص الذي بلغ أرقى المراتب في سلم النمو الخلقي هو إحساسه القوي بالحق والعدالة وقدرته الكبيرة على التحكم في الذات وحبه للإنسانية جمعاء، وإن كانت هذه الخصلة الأخيرة نافلة وزائدة على المطلوب. وتشمل الأخلاق، لدى الشخص الذي يؤمن بمبدأ العدالة ويهتدي به في حياته العملية، الفضائل المرتبطة بأخلاق السلطة وأخلاق التشارك. وما يميز هذا الشخص، بالإضافة إلى ما سبق ذكره، هو القدرة على إدراك العلاقات بين القواعد والمعايير والنماذج المثلى والمبادئ التي تشكلت خلال المراحل النمائية الثلاث، وتنظيمها وفقا لمبدأ عام في إطار نسق متكامل. يمكن القول بعبارة واحدة: إن ما يميز الشخص في المرحلة الثالثة من النمو الخلقي هي قدرته على إدراك المبدأ المنظم للأخلاق، وهو مبدأ العدالة. وهذا ما يجعله قادرا على ترتيب الفضائل حسب الأولوية في إطار خطة شمولية.

خاتمة

وفي ختام هذه الدراسة نود التأكيد على القضية التالية: يمثل الإحساس بالعدالة آلية من آليات بناء المجتمع المنظم بشكل جيد، وهو في نفس الوقت حصيلة هذا البناء. ويمكن القول بعبارة أخرى: إن الإحساس بالعدالة هو روح المواطنة كما تتحدد في إطار الليبرالية السياسية؛ وهو من حيث ارتباطه بنظرية العدالة كإنصاف، وسيلة لبناء وتنظيم المؤسسات الاجتماعية وغايتها في نفس الوقت بوصفه مصلحة من مصالح المواطنين الأكثر سموا؛ وكذلك يفرض نفسه بوصفه الحل المناسب لمسألة الاستقرار. يفهم من ذلك أن الأنظمة السياسية المبنية على أساس مبدأ العدالة كإنصاف هي أكثر الأنظمة استقرارا؛ وأن كل استقرار مفروض بالقوة هو استقرار الرعب، يظل هشا ومؤقتا. إن الاستقرار الحقيقي الدائم هو الاستقرار الذي ينشأ عن دعم المواطنين للنظام السياسي، لا خوفا من تعرضهم للقمع في حال عدم امتثالهم للقوانين، بل لكونهم يجدون في ذلك تحقيقا لمصالحهم الأكثر سموا.

نخلص من ذلك إلى النتيجة المحتومة التالية: إنه بقدر ما تدعم المؤسسات إحساس الأفراد بالعدالة، بقدر ما يدعم هذا الإحساس تلك المؤسسات. ومن هنا تأتي أهمية علم النفس الأخلاقي بوصفه الوسيلة الضرورية لتربية المواطنين وتأهيلهم للعيش في المجتمع المنظم بشكل جيد والانخراط في التعاون مع بعضهم البعض على مدى الحياة. وما يجعل هذا العلم قادرا على أداء هذه الوظيفة كونه ينطلق من تصور للعدالة ينسجم مع الطبيعة الإنسانية والمصالح الخاصة بالمواطنين كأفراد يسعى كل واحد منهم إلى تحقيق الخير كما يصوره، آخذا بعين الاعتبار المصلحة العامة للمجتمع بوصفها حصيلة تقاطع المصالح الخاصة. وهذا ما يجعل الليبرالية السياسية التي تقوم على التعددية المعقولة واقعا ممكنا، وسيتحقق بفضل المواطنين العقلانيين المعقولين، الذين يتوفرون على القدرات الأخلاقية الأساسية (القدرة على تشكيل تصور للخير، والقدرة على الإحساس بالعدالة).

ويجب التأكيد في النهاية على أن للإحساس بالعدالة في نظرية الأخلاق عند جون راولز بعد سيكولوجي، وأنه من الممكن فهمه فهما سيكولوجيا؛ وبسبب ذلك لم يعد للمبدأ الأخلاقي الكانطي الترنسندنتالي أو اللاشخصي فيها مكان يذكر. لقد أصبحت الأخلاق في إطار هذه النظرية أكثر ارتباطا بالخبرة الحية للشخص وأكثر التصاقا بواقعه الاجتماعي. ولعل أهم ما جاءت به نظرية العدالة كإنصاف هو نظرتها إلى الأخلاق بوصفها مجموعة من القدرات التي يمكن اكتسابها وتنميتها بواسطة الأساليب المناسبة في التربية والتعليم وفي تدبير وتنظيم مختلف أنواع المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

يفتح هذا الطرح أبواب الأمل أمام المجتمعات التي وجدت صعوبة في بلورة إستراتيجيات للتنمية البشرية وتنفيذه



([1]) John Rawls (1971) A theory of justice. p. 430.

([2])  John Rawls (1996). Libéralisme politique. p. 120.

([3]) Ibid

([4]) John Rawls (1971). A theory of justice,  Oxford University Press, p. 491.

[5] John Rawls (1971). Theory of justice, p. 471.

[6] John Rawls (1971). Theory of justice, p. 473.

[7] John Rawls (1971). Theory of justice,  p. 476.

Partager cet article
Repost0
26 mai 2011 4 26 /05 /mai /2011 15:35

حول بعض المقاربات في مجال تدبير المؤسسات التعليمية

من نموذج العلاقات الإنسانية إلى نموذج الموارد البشرية

ونموذج الظروف المتغيرة 

أحمد أغبال

 

1-نموذج العلاقات الإنسانية وحدوده

يمثل التواصل نقطة تركيز استراتيجية في نموذج العلاقات الإنسانية باعتباره أحد مصادر الطاقة التي تحرك المنظمة بكاملها. يأتي هذا العامل في مقدمة سلسلة من التفاعلات التي تحدد مستوى الأداء من جهة، ومدى جودة المعلومات ودقتها ونوعية القرار من جهة أخرى.

اتجاه العلاقات السببية في نموذج العلاقات الإنسانية

  Sans-titre-copie-2.JPG

يرتكز هذا النموذج على المصادرات التالية:

  يعتقد جميع أعضاء المنظمة أن جميع شركائهم وزملائهم في العمل هم أفراد نشيطون، يمتلكون القدرة والوعي، وهم على درجة كبيرة من التعقيد.

 يستطيع قادة المنظمات أن يخلقوا مناخا يبعث على الثقة المتبادلة والاحترام المتبادل، وآليات تواصل مفتوح يعزز الشعور بالحرية لدى الأفراد.

  إن مشاعر الرضا، عن العمل الناتجة عن التواصل الفعلي بين الأفراد، على اختلاف مواقعهم في المنظمة، تؤدي إلى مضاعفة المجهود في العمل، وإلى ارتفاع مستوى أداء الفرد ومردودية المنظمة.

  يمكن لأعضاء المنظمة أن يجعلوا من السلطة موردا مشتركا، ويمكن بلورة القرار الفعال من خلال المشاركة في عملية اتخاذ القرارات.

يتعين على القادة إذا أرادوا لمنظماتهم أن تشتغل بطريقة فعالة أن يعملوا على إرساء نظم للتواصل تقوم على مبدأ الاعتبار ومبدأ الانفتاح في العلاقات بين الرؤساء والمرؤوسين. يساعد هذا النوع من التواصل على خلق مناخ تنظيمي يدعم العلاقات البيشخصية، ويقوي الحوافز والولاء التنظيمي والانخراط في العمل، ويجعل من العمل نشاطا يلبي حاجات الأفراد وحاجات المنظمة على حد سواء.

يطمح هذا النموذج إلى إضفاء مسحة إنسانية على العلاقات بين العاملين في المنظمات على اختلاف مواقعهم. ولذلك يجب التعامل معه كنموذج أمثل لما ينبغي أن تكون عليه تلك العلاقات. إن طبيعته المثالية تجعله صعب التنفيذ في الواقع. والمقصود بالطبيعة المثالية لنموذج العلاقات الإنسانية هو أنه بني على أساس مبادئ مستمدة من الفلسفة ومن التجارب المخبرية التي أجريت في مجالات علم النفس وعلم الاجتماع، والتي قام بها أكاديميون لا علاقة لهم في الغالب بعالم المال والأعمال. ومن الانتقادات التي تعرض لها المثل الأعلى لنموذج العلاقات الإنسانية أيضا ما ذهب إليه Strauss، الذي يعتبر من أشهر نقاد هذه النظرية، أنه بني على مصادرات حول السلوك البشري والحوافز لها علاقة بقيم العدالة والمساواة التي كان لها مؤيدون كثيرون في الساحة الأكاديمية. تنسجم هذه المصادرات، في نظره، مع قيم الأكاديميين، ولكنها لا تنسجم مع قيم العمال ولا مع واقع المنظمات. إن الأكاديميين في رأيه، يغالون في تقدير أهمية الرضا عن العمل والحاجات العليا (كالاعتبار الذاتي مثلا) لدى الموظفين والعاملين في المنظمات، ويقللون في المقابل من أهمية الراتب والعوائد المادية. ومما يأخذ عليهم أيضا عدم اهتمامهم بدراسة العوامل التي تجعل من الصعب تطبيق نموذج العلاقات الإنسانية. يلخص شارلز كونراد Conrad الانتقادات الموجهة إلى نموذج العلاقات الإنسانية في المؤلف المشار إليه أسفله[1]. وفيه يبين أيضا حدود هذا النموذج النظري على مستوى التنفيذ. وفيما يلي عرض مركز لأهم العوامل التي لا تساعد على تطبيقه في نظر كونراد.

 -1-1حدود التواصل:

إن لأسلوب القيادة المنفتح (الذي يراعي مشاعر العاملين في المنظمات ويتعامل معهم وفقا لمبدأ الاعتبار) آثار جانبية سلبية تتمثل في تراخي نظم الضبط وكثرة الحديث بين العاملين أثناء العمل، مما يؤثر سلبا في المردودية. ويكون من نتائج ذلك أن القادة يجدون أنفسهم مضطرين إلى تقوية آليات الضبط .

دلت الدراسات التي أجريت في أعقاب التجارب التي قام بها باحثوا مؤسسة هاوثرن Howtherne على أن مثل هذه الإجراءات تكون غير فعالة في ظل العمل بأسلوب القيادة المنفتح. لقد كان من نتائج تجربة هاوثرن أن ساد الاعتقاد بأن التواصل المنفتح هو العامل الأساسي الذي يفسر ارتفاع مردودية العمل. ولكن باحثين آخرين قاموا بإعادة تحليل معطيات تجربة هاوثرن بواسطة تقنيات إحصائية لم تكن متوفرة لدى الباحثين الذين قاموا بهذه التجربة، وتوصلوا إلى أن التأثير الإيجابي لأسلوب القيادة المنفتح لا يظهر إلا عندما يقترن بعوامل أخرى ترتبط بنظم الضبط ونظام الحوافز المادية، وذلك عندما يكون الهدف هو نشر الشعور بالرضا عن العمل. وخلص الباحثون إلى القول بوجود عوامل تحد من تأثير التواصل وأسلوب القيادة المنفتح.

ومن بين العوامل التي تحد من تأثير عمليات التواصل في المنظمات يمكن أن نذكر بعض الخصائص الفردية والعلاقات البيشخصية. ينطلق نقاد نظرية العلاقات الإنسانية من مصادرة مفادها أن الناس لا يرغبون، على العموم، في الانفتاح على الآخرين والتعبير عن مشاعرهم ومواقفهم بشكل صريح. فهم يفضلون التواصل المنغلق على التواصل المنفتح، ويميلون إلى إضمار بعض المعلومات التي يعتبرونها شخصية للغاية. يسعى كل فرد ، بطبيعة الحال، إلى الحفاظ عن صورة لائقة عن ذاته وعن صورته الاجتماعية. فهو يخشى أن تستعمل المعلومات التي يدلي بها ضده في محيط يتميز بالمنافسة الشديدة على الموارد المتناقصة. وهكذا فإن الانفتاح يعني تعريض النفس للمخاطر المرتبطة بالعلاقات البيشخصية. هذا بالإضافة إلى أن الأفراد الذين يحتلون المواقع العليا في المنظمة يعلمون أن المعلومات هي مصدر مهم من مصادر السلطة، ولذلك يتحكمون فيها ويستعملونها لتقوية سلطتهم، ولا يصدرون منها إلا ما يدعم موقعهم. إن دينامية التفاعل في المنظمات تجعل الانفتاح أمرا عسيرا.

 -1-2حدود المشاركة في اتخاذ القرارات

ينطلق نقاد نظرة العلاقات الإنسانية من مصادرة مفادها أن الناس لا يرغبون في المشاركة في اتخاذ القرارات، لأن المشاركة في السلطة تؤدي إلى تحمل مزيد من المسؤوليات عن العمل. ويقدمون كمثال نموذجي على ذلك رفض العمال في يوغوسلافيا الاشتراكية المشاركة في اتخاذ القرارات. يبدو أن المشاركة لا تجذب العمال عندما يغلب عليهم الاعتقاد بأنها لن تعود عليهم بأية عوائد معنوية. وأما المصادرة الأساسية التي تنبني عليها فلسفة المشاركة لدى المدافعين عن نموذج العلاقات الإنسانية فهي أن جميع الناس لهم حاجات عليا (كالحاجة إلى الاعتبار الذاتي وإثبات وتحقيق الذات) وأنهم يرغبون في أن يكون لهم شعور بالرضا عن العمل حتى لا يشعروا أنهم يقومون بالعمل مكرهين.  ولكن خصومهم يرون أن هذه المصادرة غير صحيحة بالكامل.  ويبررون موقفهم بكون بعض الناس لا يرغبون في المشاركة في اتخاذ القرارات إما بسبب عمليات التثاقف، أو بسبب غنى الحياة والأنشطة التي يتعاطون لها خارج ميدان العمل، أو بسبب ما يحققونه من إنجازات شخصية، أو بسبب اعتقادهم أن تأثيرهم في عملية اتخاذ القرار سيكون ضعيفا أو منعدما. يبدو أنهم لا يرغبون في المشاركة عندما يشعرون أن العوائد المعنوية التي يجنونها من الأنشطة الجانبية تفوق بكثير ما يجنون من المشاركة في اتخاذ القرارات داخل المنظمة. وإذا أجبر مثل هؤلاء الأشخاص على المشاركة في عملية اتخذ القرار فإنها ستؤدي إلى استلابهم وإلى انخفاض درجة الرضا عن العمل والمردودية.

 تسعى استراتيجية المشاركة في السلطة إلى رفع مستوى الروح المعنوية للعاملين في المنظمات من جهة، وغلى تحسين نوعية القرار أو جعله قابلا للتنفيذ من جهة أخرى. إن تحقيق الهدف الأول يشترط مشاركة كل فرد في عملية اتخاذ القرارات. وإذا علمنا أن مشاعر الاستقلال والاعتبار الذاتي ، التي صنفها ماصلو Maslow ضمن الحاجات العليا، تنشأ عن فعل التواصل، أي عن عملية إرسال وتلقي المعلومات التي تنم عن تقدير الآخرين لآراء الفرد وأفكاره وضرورة أخذها بعين الاعتبار، أمكننا أن ندرك العلاقة المفترضة بين عملية اتخاذ القرار، التي تتحقق وفقا لمبدأ التواصل المفتوح، وبين الروح المعنوية. تساهم المشاركة في رفع مستوى الروح المعنوية عندما تكون فرص مشاركة الأفراد متكافئة ومتساوية إلى حد ما. وإذا كان الأفراد متساوون في الخبرات وفي كمية المعلومات التي لها علاقة بالمشكلة المطروحة فإن المشاركة تؤدي إلى تحسين نوعية القرارات.

وإذا كان التفاوت في الخبرات بين الأفراد كبيرا فإن تحسين نوعية القرار يشترط أن تكون مساهمة ذوي الخبرات العالية في عملية اتخاذ القرار أكبر من مساهمة ذوي الخبرات القليلة. وسيؤدي شعور الفئة الثانية بضعف مشاركتها في اتخاذ القرار إلى استلاب أفرادها. ذلك لأن ضعف المشاركة لا يؤدي إلى تلبية الحاجات العليا للفرد وخاصة ما تعلق منها بالاعتبار الذاتي. وسيكون من نتائج ذلك في المستقبل انخفاض درجة الرضا عن المشاركة ودرجة الانخراط فيها. وأما إذا كانت مشاركة ذوي الخبرات القليلة قوية، فإن ذلك سيؤدي إلى استلاب ذوي الخبرات العالية وهروبهم النفسي من عالم المجموعة لعدم قابليته للاستفادة من خبراتهم. ويكون من نتائج ذلك أيضا فقدان الشعور بالاستقلال، والاعتبار الذاتي، وفقدان القدرة على التأثير المرتبطة بسلطة الخبير.

وقد تؤدي المشاركة على المدى البعيد إلى رفع مستوى الخبرة لدى الأفراد العاديين والارتقاء بهم إلى مستوى الخبراء. ولكنها ستؤدي بذوي الخبرات العالية إلى الشعور بالإحباط والاستلاب على المدى البعيد.

وقد تؤدي استراتيجية المشاركة إلى خلق الاستلاب لدى أفرد فئة أخرى لاعتبارات مغايرة. ولعل أخطر أنواع الاستلاب هو ذلك الذي يتعرض له ذووا الخبرات العالية ممن يحتلون المواقع العليا في المنظمة. إن الأفراد الذين يحتلون مناصب المسؤولية والإشراف والمراقبة في المنظمات الحديثة إنما اختاروا هذه المهنة بحثا عن مزيد من السلطة. لهم شغف كبير إلى السلطة، ويجدون متعة في ممارسة سلطتهم على الآخرين في المنظمة، وغالبا ما يستعملونها لصالحهم. إن هذه الممارسات تدعم صورة الفرد عن نفسه من خلال مقارنة مكانته وراتبه مع مكانة غيره من العاملين في المنظمة ورواتبهم.  وتتحدد الصورة الذاتية لذوي المواقع العليا بمقدار ما لديهم من سلطة. تعني المشاركة في اتخاذ القرارات بالنسبة إليهم تقليص المسافة الفاصلة بينهم وبين المرؤوسين والحد، بالتالي، من سلطتهم. وهو ما من شأنه أن يلحق الضرر بالصورة الذاتية والاعتبار الذاتي لدى الأفراد الذين يحتلون المواقع العليا في المنظمة. إن استراتيجية المشاركة تهدد الحاجات العليا لذوي الواقع العليا ولذلك نجدهم يميلون على العموم إلى مقاومة سياسة المشاركة، ويلجئون عند تنفيذها إلى عرقلة عملية اتخاذ القرارات أو إلى التحايل على المشاركين لجمع المعلومات وتوظيفها وفقا لسياستهم الخاصة.

لقد انتبه الباحثون الذين يدافعون عن نموذج العلاقات الإنسانية إلى أن التغيير عندما يفرض نفسه يهدد مصالح بعض الفئات في المنظمة فتلجأ إلى تحوير المعلومات للحفاظ على مكانتهم المتميزة في المنظمة. واستعمل النقاد هذه الفكرة ضد أصحابها، وذهبوا إلى أن امتلاك بعض المعارف السرية يعني امتلاك السلطة أو تدعيمها. يقوم ذووا المواقع العليا في المنظمة، عندما تفرض عليهم مشاركة المرؤوسين في اتخاذ القرارات، بتحوير وتحريف المعلومات في محاولة للدفع بالمجموعة إلى اتخاذ من النوع الرديء، وعندما ينجحون في الدفع بالمجموعة إلى اتخاذ تلك القرارات يبدون تحفظهم عليها لما قد يترتب عنها من نتائج وخيمة، استنبطوها في ضوء المعلومات السرية التي يتوفرون عليها. وعندما تصدق نبوءتهم تزداد قيمتهم في نظر المرؤوسين لاعتقادهم أنهم يمتلكون خبرات وكفاءات عالية جدا، ويزداد احتمال تحكمهم في عملية اتخاذ القرارات في المستقبل. وبهذه الطريقة يوظفون المشاركة لتقوية سلطتهم ونفوذهم وتوسيع الهوة بينهم وبين المرؤوسين.

ولا يقفون عند هذا الحد، فقد يستخدمون آلية التواصل المنفتح كوسيلة أخرى لتقوية سلطتهم. دلت الدراسات والبحوث على وجود فروق جوهرية في القدرة على التواصل والتأثير بين ذوي المواقع العليا وذوي المواقع الدنيا في المنظمات. وتبين أن ذوي المواقع العليا يتمتعون بقدرة كبيرة على التواصل تتجلى من خلال القدرة على الإقناع والحجاج، والقدرة على فهم وتأويل خطاب الغير، والقدرة على الاستجابة له بطريقة مناسبة. وعندما يشارك ذووا المواقع الدنيا في اتخاذ القرارات يسهل عليهم التأثير فيهم واستمالتهم وتغيير آرائهم وموقفهم واتجاهاتهم. وتساعدهم مواقعهم الشكلية في المنظمة على ممارسة تأثيرهم والتحكم في عملية اتخاذ القرار.

2- نموذج الموارد البشرية

نموذج الموارد البشرية أفرزته تجارب رجال الأعمال ومدراء الشركات. وقد جاء كرد فعل ضد نموذج العلاقات الإنسانية، وربما جاء ليصححه فقط.  يبدو أن نموذج الموارد البشرية هو الصيغة المعدلة لنموذج العلاقات الإنسانية الذي تم تجريده من روحه المثالية وتطبيقه بطريقة واقعية. فهو لا يعارض ما يدعو إليه نموذج العلاقات الإنسانية: المشاركة في اتخاذ القرارات، إقامة نظم للتواصل المنفتح، خلق مناخ تنظيمي محفز، الخ. ومع ذلك نجده يتبنى بعض المصادرات التي تتعارض مع فلسفة المشاركة كما يفهمها المدافعون عن نموذج العلاقات الإنسانية. ولعل من أبرز هذه المصادرات ما يلي:

  يصعب على ذوي المراتب الدنيا في المنظمة إصدار أحكام سديدة.

  إن قدرتهم على تحمل المسؤولية ضعيفة نسبيا.

أن قدرتهم على التحكم في الذات ضعيفة نسبيا، ولذلك لا يوفقون في الغالب في اتخاذا القرار السديد.

 ولا يعملون بجد عندما يتمتعون بدرجة عالية من الاستقلا 

ومع ذلك نجدهم يظهرون نوعا من التأييد لنموذج العلاقات الإنسانية، ويدافعون عن فكرة التواصل المنفتح، ويبررون موقفهم الإيجابي منه بكونه يساعد على تقوية الروح المعنوية وروح التعاون لدى العاملين في المنظمات. غير أن الصيغة المعدلة التي يعملون بها لا تراعي المبادئ والقيم الإنسانية التي تمثل جوهر نموذج العلاقات الإنسانية. إن طريقتهم الانتقائية في التعامل مع نموذج العلاقات الإنسانية لدليل على مدى صعوبة تطبيق نموذج العلاقات الإنسانية. يركز النموذج المعدل، الذي أطلقوا عليه نموذج الموارد البشرية أو نموذج التدبيرmanagerial model، على العناصر التالية[2]:

       أداء المنظمة وأداء الفرد

  بنية تنظيمية تسمح بالمشاركة في اتخاذ القرارات

  توظيف المهارات والقدرات الفردية إلى أقصى حد ممكن لإنجاز المهام.

  التواصل المنفتح على المستويين الشكلي وغير الشكلي.

  صياغة الأهداف على مستوى مراكز القرار العليا وإعطاء الحرية والاستقلال للأفراد على مستوى التنفيذ لاختيار الوسائل المناسبة لتحقيق الأهداف المسطرة.

 إقامة نظام للمكافآت المادية والمعنوية مرتبط بالأداء

                                     شبكة التدبير التي صممها بليك وماوتن[3]

Grille.JPG

 

يولي هذا النموذج أهمية بالغة للعلاقات البيشخصية والتواصل المنفتح من جهة، ولقضايا الإنتاج والمردوية من جهة أخرى (أداء المنظمة، المراقبة والضبط). فهو يدعو إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار حاجات الفرد وحاجات المنظمة على حد سواء. ويشترط لتحقيق هذا المطلب المزدوجأن تكون  للقائد قدرة كبيرة على التواصل، مثله في ذلك مثل نموذج العلاقات الإنسانية، إلا انه يختلف عنه في ما لا يقل عن ثلاث نقط أساسية. يكمن الفرق الأول بينهما في كون نموذج العلاقات الإنسانية يقلل من أهمية ودور البنية التنظيمية بينما يجعلها نموذج الموارد البشرية في مقدمة اهتماماته. يؤكد هذا الأخير على ضرورة تغيير البنية التنظيمية لجعلها أكثر تلاؤما مع نظم التواصل الجديدة التي تمكن الأفراد من توظيف قدراتهم ومهاراتهم واستثمارها إلى أقصى حد ممكن. ويكمن الفرق الثاني بينهما في أن نموذج العلاقات الإنسانية يضع مسالة التواصل ومسألة الضبط  وإصدار التعليمات على قدم المساواة في اهتماماته بقضايا الأداء الوظيفي للمنظمات المدرسية، بينما يركز نموذج الموارد البشرية أكثر على قضايا السلطة وإصدار التعليمات. وأما الفرق الثالث بينهما فيكمن في درجة تركيز كل واحد منهما على المسألة المتعلقة بتنوع المهام وإغنائها job enrichment . تأتي هذه المسألة في مقدمة اهتمامات نموذج الموارد البشرية الذي لا يفصل بينها وبين مسألة التواصل بين الرؤساء والمرؤوسين والقضايا المتعلقة بتغيير البنية التنظيمية. يري كل من ماصلو Mslow  وهرزبورغ Herzberg أن العمل الروتيني يحول دون تلبية الحاجات العليا للفرد. ومع ذلك فإن نموذج العلاقات الإنسانية يولي أهمية أقل لمسألة إغناء المهام. يعتقد المدافعون عن نموذج الموارد البشرية أن إغناء المهام يبعث روح التحدي في نفوس العاملين في المنظمات، ويدفعهم إلى تطوير قدراتهم ومهاراتهم. وعندما يدرج هدف الإغناء في استراتيجية المنظمة تصبح المنظمة في حاجة أكثر إلى إقامة قنوات للتواصل الفعلي بين مختلف مكوناتها. ذلك لأن التواصل المنفتح يصبح ضرورة ملحة عندما تشرع المنظمة في تنفيذ خطة إغناء المهام، لأن تعقد المهام وتنوعها يجعل الفرد في حاجة إلى المفعول الرجعي feedback أو المعلومات التي تخبره بمدى إتقانه لعمله. ويتطلب الإغناء، بالإضافة إلى شبكة التواصل المنفتح وجود مناخ تنظيمي محفز لتيسير سريان المعلومات في المنظمة على المستويين العمودي  والأفقي.

3- نموذج الظروف المتغيرة contingency model

ترجع أصول نموذج الظروف المتغيرة إلى النظرية النسقية (السيبرنتيقية) التي بلورها أشبائ َAshby  (1956)، وله علاقة، أيضا، بالنظرية الوظيفية المطبقة في المنظمات الصناعية. فقد صنفه بيرو Perrow ضمن النماذج الفيبرية الجديدة لكونه لم يتخل عن المبادئ العقلانية التي يرتكز عليها النموذج البيروقراطي الذي وضعه ماكس فيبر، وإنما حاول تطويرها من خلال ربطها بسياق المنظمة لكي لا تظل مجردة وعامة[4] . إن أهم ما يطرحه نموذج الظروف المتغيرة هو أن أنماط التنظيم الشكلية (درجة تمركز القرار، ومستوى التخصص، ونظم الضبط، ودرجة الاستقلال وهامش حرية التصرف المتاح للذين يتولون تدبير شؤون المنظمة ودرجة خضوعهم للقوانين المعمول بها في المنظمة) لا يمكن فهمها فهما سليما ما لم ينظر إليها على أنها شكل من أشكال الاستجابات الوظيفية للتحديات التي يطرحها عدم اليقين والتباين الملاحظ في علاقة المهام التنظيمية بالمحيط.

ينطلق هذا النموذج من الأطروحة التي تقول أنه عندما يكون المحيط في حالة استقرار نسبي يكون من السهل التنبؤ بالوقائع التي يحتمل أن تظهر فيه. وفي هذه الحالة يكون النموذج البيروقراطي الكلاسيكي هو الشكل التنظيمي الملائم. ولكن ما يميز محيط المنظمات في الوقت الراهن هو غموض الآفاق وعدم اليقين بسب ارتباط حقوله بعضها ببعض، وتزايد وتيرة التغير وكثرة الاضطراب فيه. إن التغير السريع يولد الشعور بعدم اليقين. وفي هذه الحالة تكون الاستراتيجية الملائمة لمواجهة تحديات المحيط هي تلك التي ترتكز على مبدأ تفويض السلطة للأخصائيين والخبراء، ومبدأ المشاركة في التدبير ولامركزية القرار في كل ما يتعلق بآليات التحكم والتنسيق بين الأدوار والمهام وبين مختلف المستويات التنظيمية.

لقد جاء نموذج الزروف المتغيرة، في سياق يتميز بالتحولات السريعة، كرد فعل ضد النموذج البيروقراطي الكلاسيكي ونموذج العلاقات الإنسانية. وهكذا، فإذا كان النموذج الكلاسيكي يجعل من البيروقراطية الأسلوب الوحيد الممكن في التنظيم والتدبير، وإذا كان نموذج العلاقات الإنسانية من جهته يبحث عن أنسب طريقة للتحكم في آليات اشتغال مجموعة العمل، فإن نموذج الظروف المتغيرة يسعى إلى بلورة مقاربة مرنة مرتبطة بالسياق context-dependent approach . يمكن القول بعبارة أخرى إنه يسعى إلى الكشف عن العلاقة بين مختلف مكونات المنظمة ومحيطها الخارجي، في محاولة لاستنباط بعض المبادئ النظرية القابلة للتجريب والتي يمكن استخدامها لرسم الخطط المتعلقة بإنجاز المهام الفردية من جهة، ولبلورة شبكة العلاقات بين المهام والعناصر التكنولوجية ووحدات العمل من جهة أخرى. يحاول هذا النموذج أن يحيط بمختلف المتغيرات التي لها علاقة مباشرة بدائرة الشغل في أية منظمة مهما كان نوعها. وفيما يلي قائمة بأهم هذه المتغيرات:

  ارتباط المهام بعضها ببعض.

  درجة الغموض وعدم اليقين المرتبطين بالجانب التكنولوجي في المنظمة.

  وتيرة التغير المحتمل في المجال التكنولوجي.

  درجة التنسيق بين مختلف المهام والمستويات التنظيمية.

 تفويض السلطة ودرجة اللامركزية في علاقتهما بما يتطلبه إنجاز المهام.

  حجم المنظمة ومقدار الإجراءات والعمليات التنظيمية.

  العلاقة بين المنظمة ومحيطها الخارجي

3-1- نظم التحكم والتدبير في محيط يكتنفه الغموض وعدم اليقين

يميز الباحثون، الذين ينظرون إلى المنظمات في ضوء علاقتها بالسياق، بين ثلاثة أنواع من المحيط التنظيمي، وذلك حسب درجة الاستقرار ووتيرة التغير، ودرجة الارتباط بين الدوائر والمجالات التي تندرج في تكوين المحيط، وهي[5] :

§  المحيط "الهادئ العشوائي" placid random ، وهو أكثر أنواع المحيط بساطة.. تكون الوظائف التي تؤديها المنظمات الموجودة فيه منفصلة بعضها عن بعض، لا تربط بينها أية علاقة.

§  المحيط "الهادئ المتجمع"placid clustered  ، وفيه تكون بنية المنظمة من النوع "الميكانيكي" الذي تمثل البيروقراطية الكلاسيكية نموذجها الأمثل.

§  المحيط "المضطرب التفاعلي" disturbed reactive ، وهو أكثر أنواع المحيط تعقيدا، وفيه تكون بنية المنظمة بنية متعددة المراكز، تتمتع فيها مختلف الوحدات التي تتألف منها بدرجة عالية من الاستقلال، وتعتمد على أسلوب التدبير العضوي.

وعلى هذا الأساس يميزون في أساليب التدبير بين نوعين يتلاءم كل واحد منها مع سياق معين. هناك، من جهة، أسلوب التدبير "الميكانيكي"mecanistic type of management ، وهو الأسلوب الذي يتناسب، في نظرهم، مع متطلبات المنظمة التي توجد في السياق الذي يتميز بنوع من الاستقرار والثبات النسبي. وهناك، من جهة أخرى، أسلوب التدبير "العضوي" organic type of management، وهو الأسلوب الأكثر تلاؤما مع متطلبات المنظمة التي توجد في محيط يتميز بالتغير السريع وعدم اليقين[6]. لا يختلف الأسلوب الأول عن الأسلوب البيروقراطي التقليدي الذي يحدد الأدوار بدقة متناهية، ويفرض احترام مبدأ التراتب والتواصل العمودي. وأما أسلوب التدبير العضوي فإنه يشتغل وفقا لمبادئ المنطق الضبابي fuzzy logic ، يحدد الأدوار بطريقة مرنة وفضفاضة، ويركز على التواصل الأفقي، ولامركزية القرار، وتوزيع السلطة.

تدل العديد من الدراسات والبحوث الميدانية على أن المنظمات التي توجد في محيط مضطرب وغير مستقر تميل أكثر إلى استخدام نمط التدبير العضوي، بينما تميل المنظمات التي توجد في محيط هادئ ومستقر نسبيا إلى استخدام نمط التدبير الميكانيكي. نستنتج من ذلك أن استقرار المحيط يساعد على تشكل البنيات البيروقراطية ويدعمها. هذا قانون عام، يمكن صياغته على النحو التالي: كلما كانت درجة استقرار المحيط مرتفعة مالت المنظمات أكثر إلى الأسلوب البيروقراطي في التنظيم ونمط التدبير الميكانيكي. يمكن القول بعبارة أخرى إن الاستقرار ينتج البيروقراطية، أو أن البيروقراطية هي وليدة المحيط الهادئ. مما يدل على مدى أهمية الدور الذي يلعبه المحيط في تحديد البنية التنظيمية. وأما العوامل الأساسية التي تتدخل في تحديدها فهي:

درجة استقرار المحيط

وتيرة التغير في المحيط الخارجي للمنظمة

درجة عدم اليقين

درجة الغموض والالتباس

 مدى الارتباط بين مختلف دوائر المحيط وتداخلها.

يتبين من هذا التحليل أن نموذج الظروف المتغيرة يركز على العلاقة بين طبيعة البنية التنظيمية وأنماط التدبير ودرجة تعقد المحيط. وفي إطار هذه الشبكة من العلاقات، يولي قدرا كبيرا من الأهمية لمسألة العلاقة بين خصائص البنيات التنظيمية وأنواع التكنولوجية المستعملة.

3-2-العلاقة بين خصائص البنية التنظيمية وأنماط التكنولوجيأ المدرسية

يحيل مفهوم التكنولوجيا، كما يتصورها دعاة نموذج الظروف المتغيرة، إلى فكرتين مترابطتين: تتعلق الأولى منها بسير العمل workflow في المنظمة، والثانية بالوعي بالعلاقة بين السبب والنتيجة خلال فترة إنجاز المهام الوظيفية. إن التمييز بين مستوى الفعل ومستوى الوعي كالتمييز بين الهاردوور والسوفتوور في لغة المعلوميات[7]. يرى لورتي Lortie أنه إذا كان من الممكن وصف التيكنولوجيا المدرسية بالمعنى الأول، فإنه من الصعب الحديث عن التكنولوجيا المدرسية بالمعنى الثاني. يرجع السبب في ذلك إلى أن "المعرفة بالتكنولوجيا المدرسية تعاني من ضعف معرفتنا بالسلوك البشري وعدم توفرنا على بيداغوجيا علمية"[8]. ولكنه وجد في تصنيف تومبسن Thompson ما يساعده على تسليط بعض الضوء على التكنولوجيا المدرسية. يميز تومبسن Thompson بين ثلاثة أنواع من التكنولوجيا[9] ، وهي:

§  "التكنولوجيا التي تلعب دور الوسيط"، وهي التي يستعملها الناس لتلبية حاجاتهم، وتعتبر من أكثر أنواع التكنولوجيا بساطة.

§  "تكنولوجيا الارتباط البعيد المدى" long-linked technology ، تاخذ شكل خطة تتجلى من خلال "إنجاز المهام على مراحل وفقا لترتيب معين".

§  "التكنولوكيا الكثيفة" intensive technology ، وهي لا تستند في إنجاز المهام على معيار كوني أو شمولي، بل تركز على ما يتطلبه إنجاز مشروع يراعي خصوصية الفرد.

يرى لورتي Lortie أن التكنولوجيا المدرسية غالبا ما تكون من النوع الثاني، وأحيانا تكون من النوع الثالث. إن النمط التكنولوجي الثاني الذي يقوم على توحيد المعايير والمقاييس، ويحدد مراحل أداء المهام هو النمط التقليدي السائد. ولكن هناك دلائل تشير إلى وجود ميل إلى الانتقال من النمط الثاني إلى النمط الثالث، كاللجوء إلى أساليب التدريس الخاصة ببعض الفئات، وإلى البرامج التي تتلاءم مع حاجات بعض الأفراد دون غيرهم. هناك ضغوط خارجية ومتطلبات داخلية تدعم الميل إلى الانتقال إلى نمط التكنولوجيا الكثيفة. لقد أصبحت المنظمة المدرسية بحكم انفتاحها المتزايد على المحيط أكثر تعقيدا مما كانت عليه في السابق. وفي هذا السياق كان لابد من أن تتراجع التكنولوجيا البعيدة المدى لتفسح المجال للتكنولوجيا الكثيفة التي تراعي الفروق الفردية وتتعامل مع الحالات الخاصة. يمكن القول في ضوء ما سبق، إن ميل المنظمات المدرسية إلى التنظيم ذي البنية العضوية يرافقه الميل إلى استخدام التكنولوجيا الكثيفة. يتجلى ذلك من خلال تزايد الاهتمام بالتدبير العضوي للمؤسسات التعليمية، وابتكار آليات جديدة للتنسيق بين المهام من خلال تبني مبدأ العمل الجماعي، وإنشاء فرق التدريس team teaching ، وتشجيع العمل بروح الفريق.

ينسجم هذا التوجه مع ما يدعو إليه نموذج الظروف المتغيرة. فهو يؤكد على أهمية التواصل بين الفاعلين التربويين باعتباره العامل الأساسي الذي يحدد شكل التنظيم المدرسي، ويدعم برامج تنمية التنظيم في أفق الانتقال من التنظيم الميكانيكي/البيروقراطي إلى التنظيم العضوي. يعرف فرينش French وبيل Bell تنمية التنظيم organzation development بأنها "المجهود المبذول على المدى البعيد لتطوير قدرة المنظمة على حل المشكلات وقدرتها على تجديد آلياتها، وذلك من خلال نشر ثقافة تنظيمية تقوم على أساس مبدأ المشاركة في التدبير "[10]. تهدف حركة تنمية التنظيم المدرسي إلى تشكيل تصور إيجابي لدى المدرسين عن المؤسسة التعليمية باعتبارها نظاما موجها نحو تحقيق هدف ينسجم مع تطلعاتهم المهنية، ورغبتهم في تحقيق الذات، وتحسين نوعية الحياة ونوعية التواصل فيها. مما يدل على أن الهدف الأساسي لهذه الحركة هو الحد من ظواهر الاستلاب في أوساط المدرسين ضمن استراتيجيتها الشاملة لتغيير الثقافة التنظيمية.

تقوم استراتيجية التغيير في إطار حركة تنمية التنظيم المدرسي على الاعتقاد بعدم قابلية النظم التي تتميز بدرجة عالية من التعقيد للتغير بطريقة ميكانيكية تحت تأثير القوى الخارجية أو القرارات الإدارية. إن تفعيل برامج التغيير يتوقف على مدى قدرة القادة على كسب الولاء لجهود الإصلاح، وخلق تجاوب استراتيجي مع التغيير. من خلال توسيع ودعم شبكة التواصل بين مختلف الفاعلين في ميدان التربية والتعليم، وتكثيف عمليات التفاعل البيشخصية.

يبدو، في ضوء التحليل السابق، أن دعاة تنمية التنظيم لا يولون قدرا كبيرا من الأهمية للبنية الشكلية. ولا يتعاملون مع البنية التنظيمية باعتبارها كيانا نهائيا ومسلما به. إن البنية التنظيمية لا تتمتع في نظرهم إلا بوجود مؤقت، لأنها ضاربة الجذور في الواقع الذاتي للأفراد، ترتبط ارتباطا وثيقا بتوجهاتهم. ولذلك يأخذ التدخل لإحداث التغيير شكل عملية من عمليات العلاج النفسي التي تجعل من كسر العلبة السوداء في نظم التواصل الخطوة الأولى في اتجاه التغيير. ويصبح الهدف في هذه الحالة هو بعث روح التعاون في نفوس الأفراد، والقضاء على العزلة والانطواء والانغلاق على النفس. ومن هنا يبرز التقويم باعتباره آلية من الآليات المهمة التي تؤهل الأفراد لقبول التغيير الذي يشمل واقعهم الذاتي (العلاقات البيذاتية، والانفتاح، والرغبة في التعاون الخ..)، وتؤهلهم أيضا لقبول ثقافة الإجماع من خلال نشر المواقف والاتجاهات الإيجابية نحوه. وتجدر الإشارة، بهذا الصدد، إلى أن الإجماع يعتبر من بين الأهداف الأساسية التي تسعى إليها حركة تنمية التنظيم المدرسي.

يتبين مما سبق أن نموذج الظروف المتغيرة يستعمل كوسيلة لإحداث التغيير في المنظمات المدرسية أكثر مما يستعمل كوسيلة للتحليل. وتبين أن استراتيجيته في التغيير تعتمد على بنية تنظيمية ترتكز على مبادئ المشاركة والتعاون التي يفرضها التنوع المتزايد في مدخلات الأنظمة التعليمية، كما تفرضها التغيرات السريعة التي يشهدها المحيط الخارجي. وتعتمد هذه الاستراتيجية في قيادة التغيير على أسلوب التدبير العضوي الذي يشرك مختلف الفاعلين التربويين في عمليات الإشراف ومراقبة سير الأعمال، وفي عملية اتخاذ القرارات. وأما الهدف من هذه الإجراءات كلها فهو الزيادة في فعالية المنظمة المدرسية. وتتجلى درجة الفعالية في معدلات الإهدار، والتغيب، والجنوح، وفي مستوى أداء التلاميذ، ونوعية حصيلة التعلم.

3-3-نتائج بعض البحوث الميدانية  

لعل من أبرز البحوث الميدانية التي أجريت في ضوء نموذج الظروف المتغيرة هي تلك التي سعت إلى اختبار الفرضية التكنولوجية (فرضية العلاقة بين خصائص البنية التنظيمية ومستوى التطور التكنولوجي). ركزت هذه البحوث على ثلاثة عناصر من بين العناصر التكنولوجية الجديدة التي أدرجت في عملية التعليم، وهي: الفضاء المفتوح، فرق التدريس team teaching ، وأساليب التدريس والتعلم التي تتعامل مع الحالات الخاصة، وتأخذ بعين الاعتبار الفروق الفردية. أجريت هذه البحوث في الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا وبريطاني، وأستراليا، ونيوزيلندة، وهي البلدان التي استعملت هذه التكنولوجيا على نطاق واسع في التعليم الابتدائي بالخصوص. لجأت هذه البلدان منذ فترة الستينات من القرن الماضي إلى التصميم المفتوح للبنايات المدرسية (البنيان غير المطوق بالحواجز) لاعتبارات اقتصادية. جاءت تقنية البنيان المفتوح كبديل لتصاميم الحجرات المتمايزة المنغلقة الموروثة عن القرن التاسع عشر، والتي استمر العمل بها طيلة القرن العشرين في معظم البلدان. انتشر استعمال التصميم الجديدة بسرعة في العديد من الدول المتقدمة، وارتفع عدد المدارس ذات البنيان المفتوح لتصل نسبتها إلى أكثر من 50 % في وقت وجيز[11].

ومن بين النتائج الأولية التي توصل إليها الباحثون الذين اهتموا بدراسة تأثير التصميم الجديد في سلوك الفاعلين التربويين وجود علاقة بين متغير البنيان المفتوح وعلاقة التبعية المتبادلة بين المدرسين. عبر كوهن Cohen عن هذه المسألة بقوله إن »العمل في الفضاء المفتوح يضطر المدرسين إلى التعاون فيما بينهم بشكل من الأشكال، كالتعاون مثلا من أجل برمجة الأنشطة الهادئة والأنشطة الصاخبة، واستعمال موارد مشتركة « [12]. إلا أن بعض الدراسات الميدانية التي تناولت مسألة العلاقة بين الفضاء المفتوح والسلوك المتوقع أخفقت في إثبات وجود علاقة ارتباط جوهرية أو علاقة سببية بين المتغيرين، حيث تبين أن »سلوك المدرسين لم يستجب لتوقعات المصممين «[13]. وخلص الباحثون إلى القول إن الفضاء المفتوح ييسر عمليات التفاعل الأكثر تطورا بين المدرسين كالعمل بروح الفريق مثلا، ولكنه لا يضمنها.

والملاحظ أن تطبيق تصميم البنيان المفتوح رافقه العمل بتقنية فريق التدريس Team teaching في المدارس الجديدة. يأخذ العمل بهذه التقنية أشكالا عديدة كالتخطيط الجماعي، والتقييم الجماعي للدروس المنجزة، وعلاقة التبعية المتبادلة بين أعضاء هيئة التدريس. عرف شابلين Shaplin تقنية التدريس بروح الفريق بأنها» شكل من أشكال تنظيم التدريس الذي يشمل المدرسين والتلاميذ الموكولين إليهم، تسند فيه المسؤولية لمدرسين اثنين أو أكثر، يشتغلون معا على أجزاء مهمة من برنامج التدريس الخاص بمجموعة معينة من التلاميذ«  [14] . وعلق تيلر Tyler ،الذي أورد هذا التعريف في المؤلف المشار إليه، بقوله: إذا كان كل أسلوب من أساليب التدريس يستلزم توفر الحد الأدنى من التعاون بين المدرسين، فإن أسلوب فرق التدريس يتطلب نوعا مختلفا من تنظيم العمل، وهو التنظيم الذي يرتكز فيه التنسيق بين المهام على مبدأ التبادلية reciprocity  وعلاقة التماثل symmitrical relatioship بين أعضاء هيئة التدريس. ويرى لورتي Lortie أن وظيفة بنية التنسيق هذه تنسجم مع التكنولوجيا الكثيفة أكثر مما تنسجم مع تكنولوجيا الارتباط البعيد المدى التي تخضع فيها مختلف الإجراءات والعمليات لمنطق التسلسل [15] . وعندما انتشرت المدارس ذات الفضاء المفتوح على نطاق واسع في الدول المتقدمة بدا أسلوب التدريس التقليدي يتراجع بشكل ملحوظ، منذ بداية السبعينات من القرن الماضي، ليحل محله أسلوب التدريس بروح الفريق. انتبه الباحثون إلى هذا التطور، وانكبوا على دراسة العلاقة بين العامل التكنولوجي، وتنظيم العمل، وآليات التدبير في المنظمات المدرسية.

تركز اهتمام الباحثين في مجال التعليم الثانوي في الولايات المتحدة الأمريكية على دراسة العلاقة بين العناصر التكنولوجية والبنية التنظيمية التي تقوم على مبادئ التعاون والمشاركة، والتي ظهرت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية كاستجابة لتنوع مدخلات الأنظمة التعليمية من جهة، وللتغيرات السريعة التي طالت النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من جهة أخرى. وفي هذا الإطار توصل Derrant Gabarro إلى وجود علاقة ارتباط مهمة بين بنية التدبير العضوي orgganic management structure ، التي تتجلى من خلال تقاسم أدوار المراقبة والإشراف، والعمل بالفرق ذات الوظائف المتداخلة والمتقاطعة، والمشاركة في اتخاذ القرارات، وبين فعالية المنظمة التي تدل عليها مؤشرات الإهدار، والتغيب، والجنوح، الخ. وتوصل روتر Rutter ومجموعته إلى نتائج مماثلة، حيث أكدوا على وجود علاقة جوهرية بين المتغيرات البنيوية والمؤشرات السابقة الذكر. ولعل من بين أهم النتائج التي انتهوا إليها أن التعاون بين المدرسين هو العامل الأكثر تأثيرا في فعالية المنظمات المدرسية. كتب فريق البحث يقول بهذا الصدد: » إن ما يثير الانتباه هو أن المدرس في المدارس الأقل نجاحا غالبا ما يترك وهو يهيأ دروسه ويخطط لعمله وحيدا، ولا يتلقى من زملائه ذوي التجربة الطويلة إلا قدرا قليلا من التوجيه والإشراف. وكذلك تكون درجة التنسيق مع غيره من المدرسين، لضمان التماسك بين الدروس التي يتم تلقينها في مختلف المستويات، ضعيفا جدا « [16] . وتوصلت دراسة أخرى[17] إلى أن تصورات التلاميذ لعمليات التفاعل بين المدرسين تؤثر بشكل قوي في سلوكهم، وتحدد بالتالي مستوى الأداء عندهم.

 وكشفت البحوث التي أجريت في ميدان التعليم الابتدائي عن وجود علاقة بين التنظيم المدرسي وأسلوب العمل بروح الفريق في مجال التدريس.  حيث تبين أن أسلوب التدريس الجديد أدى إلى انتقال مركز الثقل في نظم المراقبة الخاصة ببرامج التدريس من رئيس المؤسسة إلى فرق التدريس، كما أنه أدى إلى التقليل من عزلة المدرسين، وإلى ازدياد درجة الانفتاح والشفافية في عمليات التفاعل بينهم، وارتفاع مستوى رضاهم عن العمل وشعورهم بالاستقلال، وذلك على الرغم من أن العلاقة بين الفضاء المفتوح وعمليات التفاعل بين المدرسين ظلت ضعيفة على العموم. يمكن القول، بصفة عامة، إن تطوير طرق العمل وتكنولوجيا التدريس في المدارس المصممة بشكل مفتوح ساعدت على تنامي الحركة المهنية للمدرسين، والتخلص من سلبيات الهيكل البيروقراطي، وعلى إرساء بنية تنظيمية على أساس مبادئ اللامركزية وتفويض السلطة والمشاركة في اتخاذ القرارات.

تؤيد هذه النتائج أطروحة نموذج الظروف المتغيرة التي تقول إن تنامي التكنولوجيا الكثيفة في ميدان التعليم يرافقه تغير في أنماط التنظيم والتنسيق بين المهام، وفي نظم المراقبة والإشراف على سير العمل. وهكذا، فعندما يجد المدرسون أنفسهم في فضاء مفتوح تكون الظروف قد تهيأت لإزالة الحواجز التي تفصل بعضهم عن بعض، وبعث روح التعاون في نفوسهم، وتنمية القدرة على العمل بروح الفريق. ويكون من نتائج ذلك ازدياد الميل إلى ارتباط المهام بعضها ببعض ارتباطا عضويا. وعندما يحصل الوعي بالارتباط العضوي بين المهام يكون من السهل على المدرس قبول التقويم الجماعي لأنشطة التدريس.[18] . وتجدر الإشارة إلى أن التقويم الجماعي هو آلية من آليات التحكم الأكثر فعالية بالمقارنة مع آليات الضبط والتحكم التقليدية لأنه يفترض الاعتراف بالمسؤولية عن نتائج العمل. إن التقويم الجماعي هو أسلوب التحكم من الداخل في سير العمل. ولذلك يمكن اعتباره العنصر الأساسي الذي يميز أسلوب التدبير العضوي عن أسلوب التدبير البيروقراطي الميكانيكي.  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1]    Conrad,C.(1985). Strategic organizational communication. Culture, situation and adaptation,New York, Chicago, Holt : Rinehart and Winston.

[2] Blake, R. and Mouton, J.S. (1976).  « When scholarship fails.Research suffers », Administrative

   Science Quarterly, no. 21, pp. 93-96.

[3] Conrad, C. (1985). Strategic organizational communication : culture, situation and adaptation, New

  York, Chicago : Rinehart and Winston.

[4] Perrow, C.(1973). Complex organizations : a critical essay  Glenview, Scott, Foresman.

[5] Tyler, W.(1988). School organisation, New York, Croom Helm , p. 69.

 

[6] Clegg, S. And Dunkerley, D.(1980). Organisation, class and control, London, Routledge and Kegan

   Paul

[7]Lortie, D.C.(1977).  « Two anomalies and three perspectives :some observations on school

  organization », in R.G.Corwin and R.A Edelfelt (eds).Perspectives on organization : the school as an

  organization, AACTE/ATE , Washington, DC.

[8] Lortie, D.C. op. cit. p. 35.

[9] Thompson, J.G.(1987).organizations in action, New York, McGraw-Hill.

[10] French,W.L. and Bell, C.H (1973). Organization development : behavioral science interventions for

    organization improvement. New Gersey, Printice Hall, Englwood Ccliffs, p. 13

[11] Bennett, N. and Hayland, T. (1979). « Open plan – open education », British Educational Research

    Journal, vol. 5, pp. 159-166.

[12] Cohen, E.G.(1981). « Sociology looks at team teaching », in A. Kerckhoff and R.G. Corwin (eds).

    Research in sociology and socialization : research in educational organizations, Greenwich, Conn.,

    Jai, Vol. 2, p. 164.

[13] Bennett, N. and Hayland, T. (1979). Op. cit. p. 164.

[14] Tyler, W.(1988). School organisation, op.cit., p. 75-76.

[15] Lortie, D.C.(1975). The schoolteacherM a sociological study, Chicago: University of Chicago Press

[16] Rutter, M , Maugham,B ,Mortimore, P, Ouston, J. and Smith, A.(1979). Fifteen thousand hours :

    secondary schools and their effect on children, London, Open Books, p. 136.

[17] َAinley, J. Reed, R. and Miller, H.(1987).School organization and the quality of schooling : a study of     Victorian government scondary schools. ACER, Research Monograph, no 29, Melbourne.

[18] Cohen, E.G.(1981). « Sociology looks at team teaching »,  op. cit.

Partager cet article
Repost0
24 mai 2011 2 24 /05 /mai /2011 20:08

حول بعض المقاربات في مجال تدبير المؤسسات التعليمية:

من نموذج العلاقات الإنسانية إلى نموذج الموارد البشرية

ونموذج الظروف المتغيرة 

أحمد أغبال

 

1-نموذج العلاقات الإنسانية وحدوده

يمثل التواصل نقطة تركيز استراتيجية في نموذج العلاقات الإنسانية باعتباره أحد مصادر الطاقة التي تحرك المنظمة بكاملها. يأتي هذا العامل في مقدمة سلسلة من التفاعلات التي تحدد مستوى الأداء من جهة، ومدى جودة المعلومات ودقتها ونوعية القرار من جهة أخرى.

اتجاه العلاقات السببية في نموذج العلاقات الإنسانية

 

  

يرتكز هذا النموذج على المصادرات التالية:

§        يعتقد جميع أعضاء المنظمة أن جميع شركائهم وزملائهم في العمل هم أفراد نشيطون، يمتلكون القدرة والوعي، وهم على درجة كبيرة من التعقيد.

§        يستطيع قادة المنظمات أن يخلقوا مناخا يبعث على الثقة المتبادلة والاحترام المتبادل، وآليات تواصل مفتوح يعزز الشعور بالحرية لدى الأفراد.

§        إن مشاعر الرضا، عن العمل الناتجة عن التواصل الفعلي بين الأفراد، على اختلاف مواقعهم في المنظمة، تؤدي إلى مضاعفة المجهود في العمل، وإلى ارتفاع مستوى أداء الفرد ومردودية المنظمة.

§        يمكن لأعضاء المنظمة أن يجعلوا من السلطة موردا مشتركا، ويمكن بلورة القرار الفعال من خلال المشاركة في عملية اتخاذ القرارات.

يتعين على القادة إذا أرادوا لمنظماتهم أن تشتغل بطريقة فعالة أن يعملوا على إرساء نظم للتواصل تقوم على مبدأ الاعتبار ومبدأ الانفتاح في العلاقات بين الرؤساء والمرؤوسين. يساعد هذا النوع من التواصل على خلق مناخ تنظيمي يدعم العلاقات البيشخصية، ويقوي الحوافز والولاء التنظيمي والانخراط في العمل، ويجعل من العمل نشاطا يلبي حاجات الأفراد وحاجات المنظمة على حد سواء.

يطمح هذا النموذج إلى إضفاء مسحة إنسانية على العلاقات بين العاملين في المنظمات على اختلاف مواقعهم. ولذلك يجب التعامل معه كنموذج أمثل لما ينبغي أن تكون عليه تلك العلاقات. إن طبيعته المثالية تجعله صعب التنفيذ في الواقع. والمقصود بالطبيعة المثالية لنموذج العلاقات الإنسانية هو أنه بني على أساس مبادئ مستمدة من الفلسفة ومن التجارب المخبرية التي أجريت في مجالات علم النفس وعلم الاجتماع، والتي قام بها أكاديميون لا علاقة لهم في الغالب بعالم المال والأعمال. ومن الانتقادات التي تعرض لها المثل الأعلى لنموذج العلاقات الإنسانية أيضا ما ذهب إليه الذي يعتبر من أشهر نقاد هذه النظرية، أنه بني على مصادرات حول السلوك البشري والحوافز لها علاقة بقيم العدالة والمساواة التي كان لها مؤيدون كثيرون في الساحة الأكاديمية. تنسجم هذه المصادرات، في نظره، مع قيم الأكاديميين، ولكنها لا تنسجم مع قيم العمال ولا مع واقع المنظمات. إن الأكاديميين في رأيه، يغالون في تقدير أهمية الرضا عن العمل والحاجات العليا (كالاعتبار الذاتي مثلا) لدى الموظفين والعاملين في المنظمات، ويقللون في المقابل من أهمية الراتب والعوائد المادية. ومما يأخذ عليهم أيضا عدم اهتمامهم بدراسة العوامل التي تجعل من الصعب تطبيق نموذج العلاقات الإنسانية. يلخص شارلز كونراد Conrad الانتقادات الموجهة إلى نموذج العلاقات الإنسانية في المؤلف المشار إليه أسفله[1]. وفيه يبين أيضا حدود هذا النموذج النظري على مستوى التنفيذ. وفيما يلي عرض مركز لأهم العوامل التي لا تساعد على تطبيقه في نظر كونراد.

 -1-1حدود التواصل:

إن لأسلوب القيادة المنفتح (الذي يراعي مشاعر العاملين في المنظمات ويتعامل معهم وفقا لمبدأ الاعتبار) آثار جانبية سلبية تتمثل في تراخي نظم الضبط وكثرة الحديث بين العاملين أثناء العمل، مما يؤثر سلبا في المردودية. ويكون من نتائج ذلك أن القادة يجدون أنفسهم مضطرين إلى تقوية آليات الضبط .

دلت الدراسات التي أجريت في أعقاب التجارب التي قام بها باحثوا مؤسسة هاوثرن  على أن مثل هذه الإجراءات تكون غير فعالة في ظل العمل بأسلوب القيادة المنفتح. لقد كان من نتائج تجربة هاوثرن أن ساد الاعتقاد بأن التواصل المنفتح هو العامل الأساسي الذي يفسر ارتفاع مردودية العمل. ولكن باحثين آخرين قاموا بإعادة تحليل معطيات تجربة هاوثرن بواسطة تقنيات إحصائية لم تكن متوفرة لدى الباحثين الذين قاموا بهذه التجربة، وتوصلوا إلى أن التأثير الإيجابي لأسلوب القيادة المنفتح لا يظهر إلا عندما يقترن بعوامل أخرى ترتبط بنظم الضبط ونظام الحوافز المادية، وذلك عندما يكون الهدف هو نشر الشعور بالرضا عن العمل. وخلص الباحثون إلى القول بوجود عوامل تحد من تأثير التواصل وأسلوب القيادة المنفتح.

ومن بين العوامل التي تحد من تأثير عمليات التواصل في المنظمات يمكن أن نذكر بعض الخصائص الفردية والعلاقات البيشخصية. ينطلق نقاد نظرية العلاقات الإنسانية من مصادرة مفادها أن الناس لا يرغبون، على العموم، في الانفتاح على الآخرين والتعبير عن مشاعرهم ومواقفهم بشكل صريح. فهم يفضلون التواصل المنغلق على التواصل المنفتح، ويميلون إلى إضمار بعض المعلومات التي يعتبرونها شخصية للغاية. يسعى كل فرد ، بطبيعة الحال، إلى الحفاظ عن صورة لائقة عن ذاته وعن صورته الاجتماعية. فهو يخشى أن تستعمل المعلومات التي يدلي بها ضده في محيط يتميز بالمنافسة الشديدة على الموارد المتناقصة. وهكذا فإن الانفتاح يعني تعريض النفس للمخاطر المرتبطة بالعلاقات البيشخصية. هذا بالإضافة إلى أن الأفراد الذين يحتلون المواقع العليا في المنظمة يعلمون أن المعلومات هي مصدر مهم من مصادر السلطة، ولذلك يتحكمون فيها ويستعملونها لتقوية سلطتهم، ولا يصدرون منها إلا ما يدعم موقعهم. إن دينامية التفاعل في المنظمات تجعل الانفتاح أمرا عسيرا.

 -1-2حدود المشاركة في اتخاذ القرارات

ينطلق نقاد نظرة العلاقات الإنسانية من مصادرة مفادها أن الناس لا يرغبون في المشاركة في اتخاذ القرارات، لأن المشاركة في السلطة تؤدي إلى تحمل مزيد من المسؤوليات عن العمل. ويقدمون كمثال نموذجي على ذلك رفض العمال في يوغوسلافيا الاشتراكية المشاركة في اتخاذ القرارات. يبدو أن المشاركة لا تجذب العمال عندما يغلب عليهم الاعتقاد بأنها لن تعود عليهم بأية عوائد معنوية. وأما المصادرة الأساسية التي تنبني عليها فلسفة المشاركة لدى المدافعين عن نموذج العلاقات الإنسانية فهي أن جميع الناس لهم حاجات عليا (كالحاجة إلى الاعتبار الذاتي وإثبات وتحقيق الذات) وأنهم يرغبون في أن يكون لهم شعور بالرضا عن العمل حتى لا يشعروا أنهم يقومون بالعمل مكرهين.  ولكن خصومهم يرون أن هذه المصادرة غير صحيحة بالكامل.  ويبررون موقفهم بكون بعض الناس لا يرغبون في المشاركة في اتخاذ القرارات إما بسبب عمليات التثاقف، أو بسبب غنى الحياة والأنشطة التي يتعاطون لها خارج ميدان العمل، أو بسبب ما يحققونه من إنجازات شخصية، أو بسبب اعتقادهم أن تأثيرهم في عملية اتخاذ القرار سيكون ضعيفا أو منعدما. يبدو أنهم لا يرغبون في المشاركة عندما يشعرون أن العوائد المعنوية التي يجنونها من الأنشطة الجانبية تفوق بكثير ما يجنون من المشاركة في اتخاذ القرارات داخل المنظمة. وإذا أجبر مثل هؤلاء الأشخاص على المشاركة في عملية اتخذ القرار فإنها ستؤدي إلى استلابهم وإلى انخفاض درجة الرضا عن العمل والمردودية.

 تسعى استراتيجية المشاركة في السلطة إلى رفع مستوى الروح المعنوية للعاملين في المنظمات من جهة، وغلى تحسين نوعية القرار أو جعله قابلا للتنفيذ من جهة أخرى. إن تحقيق الهدف الأول يشترط مشاركة كل فرد في عملية اتخاذ القرارات. وإذا علمنا أن مشاعر الاستقلال والاعتبار الذاتي ، التي صنفها ماصلو ضمن الحاجات العليا، تنشأ عن فعل التواصل، أي عن عملية إرسال وتلقي المعلومات التي تنم عن تقدير الآخرين لآراء الفرد وأفكاره وضرورة أخذها بعين الاعتبار، أمكننا أن ندرك العلاقة المفترضة بين عملية اتخاذ القرار، التي تتحقق وفقا لمبدأ التواصل المفتوح، وبين الروح المعنوية. تساهم المشاركة في رفع مستوى الروح المعنوية عندما تكون فرص مشاركة الأفراد متكافئة ومتساوية إلى حد ما. وإذا كان الأفراد متساوون في الخبرات وفي كمية المعلومات التي لها علاقة بالمشكلة المطروحة فإن المشاركة تؤدي إلى تحسين نوعية القرارات.

وإذا كان التفاوت في الخبرات بين الأفراد كبيرا فإن تحسين نوعية القرار يشترط أن تكون مساهمة ذوي الخبرات العالية في عملية اتخاذ القرار أكبر من مساهمة ذوي الخبرات القليلة. وسيؤدي شعور الفئة الثانية بضعف مشاركتها في اتخاذ القرار إلى استلاب أفرادها. ذلك لأن ضعف المشاركة لا يؤدي إلى تلبية الحاجات العليا للفرد وخاصة ما تعلق منها بالاعتبار الذاتي. وسيكون من نتائج ذلك في المستقبل انخفاض درجة الرضا عن المشاركة ودرجة الانخراط فيها. وأما إذا كانت مشاركة ذوي الخبرات القليلة قوية، فإن ذلك سيؤدي إلى استلاب ذوي الخبرات العالية وهروبهم النفسي من عالم المجموعة لعدم قابليته للاستفادة من خبراتهم. ويكون من نتائج ذلك أيضا فقدان الشعور بالاستقلال، والاعتبار الذاتي، وفقدان القدرة على التأثير المرتبطة بسلطة الخبير.

وقد تؤدي المشاركة على المدى البعيد إلى رفع مستوى الخبرة لدى الأفراد العاديين والارتقاء بهم إلى مستوى الخبراء. ولكنها ستؤدي بذوي الخبرات العالية إلى الشعور بالإحباط والاستلاب على المدى البعيد.

وقد تؤدي استراتيجية المشاركة إلى خلق الاستلاب لدى أفرد فئة أخرى لاعتبارات مغايرة. ولعل أخطر أنواع الاستلاب هو ذلك الذي يتعرض له ذووا الخبرات العالية ممن يحتلون المواقع العليا في المنظمة. إن الأفراد الذين يحتلون مناصب المسؤولية والإشراف والمراقبة في المنظمات الحديثة إنما اختاروا هذه المهنة بحثا عن مزيد من السلطة. لهم شغف كبير إلى السلطة، ويجدون متعة في ممارسة سلطتهم على الآخرين في المنظمة، وغالبا ما يستعملونها لصالحهم. إن هذه الممارسات تدعم صورة الفرد عن نفسه من خلال مقارنة مكانته وراتبه مع مكانة غيره من العاملين في المنظمة ورواتبهم.  وتتحدد الصورة الذاتية لذوي المواقع العليا بمقدار ما لديهم من سلطة. تعني المشاركة في اتخاذ القرارات بالنسبة إليهم تقليص المسافة الفاصلة بينهم وبين المرؤوسين والحد، بالتالي، من سلطتهم. وهو ما من شأنه أن يلحق الضرر بالصورة الذاتية والاعتبار الذاتي لدى الأفراد الذين يحتلون المواقع العليا في المنظمة. إن استراتيجية المشاركة تهدد الحاجات العليا لذوي الواقع العليا ولذلك نجدهم يميلون على العموم إلى مقاومة سياسة المشاركة، ويلجئون عند تنفيذها إلى عرقلة عملية اتخاذ القرارات أو إلى التحايل على المشاركين لجمع المعلومات وتوظيفها وفقا لسياستهم الخاصة.

لقد انتبه الباحثون الذين يدافعون عن نموذج العلاقات الإنسانية إلى أن التغيير عندما يفرض نفسه يهدد مصالح بعض الفئات في المنظمة فتلجأ إلى تحوير المعلومات للحفاظ على مكانتهم المتميزة في المنظمة. واستعمل النقاد هذه الفكرة ضد أصحابها، وذهبوا إلى أن امتلاك بعض المعارف السرية يعني امتلاك السلطة أو تدعيمها. يقوم ذووا المواقع العليا في المنظمة، عندما تفرض عليهم مشاركة المرؤوسين في اتخاذ القرارات، بتحوير وتحريف المعلومات في محاولة للدفع بالمجموعة إلى اتخاذ من النوع الرديء، وعندما ينجحون في الدفع بالمجموعة إلى اتخاذ تلك القرارات يبدون تحفظهم عليها لما قد يترتب عنها من نتائج وخيمة، استنبطوها في ضوء المعلومات السرية التي يتوفرون عليها. وعندما تصدق نبوءتهم تزداد قيمتهم في نظر المرؤوسين لاعتقادهم أنهم يمتلكون خبرات وكفاءات عالية جدا، ويزداد احتمال تحكمهم في عملية اتخاذ القرارات في المستقبل. وبهذه الطريقة يوظفون المشاركة لتقوية سلطتهم ونفوذهم وتوسيع الهوة بينهم وبين المرؤوسين.

ولا يقفون عند هذا الحد، فقد يستخدمون آلية التواصل المنفتح كوسيلة أخرى لتقوية سلطتهم. دلت الدراسات والبحوث على وجود فروق جوهرية في القدرة على التواصل والتأثير بين ذوي المواقع العليا وذوي المواقع الدنيا في المنظمات. وتبين أن ذوي المواقع العليا يتمتعون بقدرة كبيرة على التواصل تتجلى من خلال القدرة على الإقناع والحجاج، والقدرة على فهم وتأويل خطاب الغير، والقدرة على الاستجابة له بطريقة مناسبة. وعندما يشارك ذووا المواقع الدنيا في اتخاذ القرارات يسهل عليهم التأثير فيهم واستمالتهم وتغيير آرائهم وموقفهم واتجاهاتهم. وتساعدهم مواقعهم الشكلية في المنظمة على ممارسة تأثيرهم والتحكم في عملية اتخاذ القرار.

2- نموذج الموارد البشرية

نموذج الموارد البشرية أفرزته تجارب رجال الأعمال ومدراء الشركات. وقد جاء كرد فعل ضد نموذج العلاقات الإنسانية، وربما جاء ليصححه فقط.  يبدو أن نموذج الموارد البشرية هو الصيغة المعدلة لنموذج العلاقات الإنسانية الذي تم تجريده من روحه المثالية وتطبيقه بطريقة واقعية. فهو لا يعارض ما يدعو إليه نموذج العلاقات الإنسانية: المشاركة في اتخاذ القرارات، إقامة نظم للتواصل المنفتح، خلق مناخ تنظيمي محفز، الخ. ومع ذلك نجده يتبنى بعض المصادرات التي تتعارض مع فلسفة المشاركة كما يفهمها المدافعون عن نموذج العلاقات الإنسانية. ولعل من أبرز هذه المصادرات ما يلي:

§        يصعب على ذوي المراتب الدنيا في المنظمة إصدار أحكام سديدة.

§        إن قدرتهم على تحمل المسؤولية ضعيفة نسبيا.

§        أن قدرتهم على التحكم في الذات ضعيفة نسبيا، ولذلك لا يوفقون في الغالب في اتخاذا القرار السديد.

§        ولا يعملون بجد عندما يتمتعون بدرجة عالية من الاستقلال.  

ومع ذلك نجدهم يظهرون نوعا من التأييد لنموذج العلاقات الإنسانية، ويدافعون عن فكرة التواصل المنفتح، ويبررون موقفهم الإيجابي منه بكونه يساعد على تقوية الروح المعنوية وروح التعاون لدى العاملين في المنظمات. غير أن الصيغة المعدلة التي يعملون بها لا تراعي المبادئ والقيم الإنسانية التي تمثل جوهر نموذج العلاقات الإنسانية. إن طريقتهم الانتقائية في التعامل مع نموذج العلاقات الإنسانية لدليل على مدى صعوبة تطبيق نموذج العلاقات الإنسانية. يركز النموذج المعدل، الذي أطلقوا عليه نموذج الموارد البشرية أو نموذج التدبير على العناصر التالية[2]:

§        أداء المنظمة وأداء الفرد

§        بنية تنظيمية تسمح بالمشاركة في اتخاذ القرارات

§        توظيف المهارات والقدرات الفردية إلى أقصى حد ممكن لإنجاز المهام.

§        التواصل المنفتح على المستويين الشكلي وغير الشكلي.

§        صياغة الأهداف على مستوى مراكز القرار العليا وإعطاء الحرية والاستقلال للأفراد على مستوى التنفيذ لاختيار الوسائل المناسبة لتحقيق الأهداف المسطرة.

§        إقامة نظام للمكافآت المادية والمعنوية مرتبط بالأداء

                                     شبكة التدبير التي صممها بليك وماوتن[3]

 

يولي هذا النموذج أهمية بالغة للعلاقات البيشخصية والتواصل المنفتح من جهة، ولقضايا الإنتاج والمردوية من جهة أخرى (أداء المنظمة، المراقبة والضبط). فهو يدعو إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار حاجات الفرد وحاجات المنظمة على حد سواء. ويشترط لتحقيق هذا المطلب المزدوجأن تكون  للقائد قدرة كبيرة على التواصل، مثله في ذلك مثل نموذج العلاقات الإنسانية، إلا انه يختلف عنه في ما لا يقل عن ثلاث نقط أساسية. يكمن الفرق الأول بينهما في كون نموذج العلاقات الإنسانية يقلل من أهمية ودور البنية التنظيمية بينما يجعلها نموذج الموارد البشرية في مقدمة اهتماماته. يؤكد هذا الأخير على ضرورة تغيير البنية التنظيمية لجعلها أكثر تلاؤما مع نظم التواصل الجديدة التي تمكن الأفراد من توظيف قدراتهم ومهاراتهم واستثمارها إلى أقصى حد ممكن. ويكمن الفرق الثاني بينهما في أن نموذج العلاقات الإنسانية يضع مسالة التواصل ومسألة الضبط  وإصدار التعليمات على قدم المساواة في اهتماماته بقضايا الأداء الوظيفي للمنظمات المدرسية، بينما يركز نموذج الموارد البشرية أكثر على قضايا السلطة وإصدار التعليمات. وأما الفرق الثالث بينهما فيكمن في درجة تركيز كل واحد منهما على المسألة المتعلقة بتنوع المهام وإغنائها . تأتي هذه المسألة في مقدمة اهتمامات نموذج الموارد البشرية الذي لا يفصل بينها وبين مسألة التواصل بين الرؤساء والمرؤوسين والقضايا المتعلقة بتغيير البنية التنظيمية. يري كل من ماصلو وهرزبورغ أن العمل الروتيني يحول دون تلبية الحاجات العليا للفرد. ومع ذلك فإن نموذج العلاقات الإنسانية يولي أهمية أقل لمسألة إغناء المهام. يعتقد المدافعون عن نموذج الموارد البشرية أن إغناء المهام يبعث روح التحدي في نفوس العاملين في المنظمات، ويدفعهم إلى تطوير قدراتهم ومهاراتهم. وعندما يدرج هدف الإغناء في استراتيجية المنظمة تصبح المنظمة في حاجة أكثر إلى إقامة قنوات للتواصل الفعلي بين مختلف مكوناتها. ذلك لأن التواصل المنفتح يصبح ضرورة ملحة عندما تشرع المنظمة في تنفيذ خطة إغناء المهام، لأن تعقد المهام وتنوعها يجعل الفرد في حاجة إلى المفعول الرجعي أو المعلومات التي تخبره بمدى إتقانه لعمله. ويتطلب الإغناء، بالإضافة إلى شبكة التواصل المنفتح وجود مناخ تنظيمي محفز لتيسير سريان المعلومات في المنظمة على المستويين العمودي  والأفقي.

contingency model نموذج الظروف المتغيرة

ترجع أصول نموذج الظروف المتغيرة إلى النظرية النسقية (السيبرنتيقية) التي بلورها أشبائ (1956)، وله علاقة، أيضا، بالنظرية الوظيفية المطبقة في المنظمات الصناعية. فقد صنفه بيرو ضمن النماذج الفيبرية الجديدة لكونه لم يتخل عن المبادئ العقلانية التي يرتكز عليها النموذج البيروقراطي الذي وضعه ماكس فيبر، وإنما حاول تطويرها من خلال ربطها بسياق المنظمة لكي لا تظل مجردة وعامة[4] . إن أهم ما يطرحه نموذج الظروف المتغيرة هو أن أنماط التنظيم الشكلية (درجة تمركز القرار، ومستوى التخصص، ونظم الضبط، ودرجة الاستقلال وهامش حرية التصرف المتاح للذين يتولون تدبير شؤون المنظمة ودرجة خضوعهم للقوانين المعمول بها في المنظمة) لا يمكن فهمها فهما سليما ما لم ينظر إليها على أنها شكل من أشكال الاستجابات الوظيفية للتحديات التي يطرحها عدم اليقين والتباين الملاحظ في علاقة المهام التنظيمية بالمحيط.

ينطلق هذا النموذج من الأطروحة التي تقول أنه عندما يكون المحيط في حالة استقرار نسبي يكون من السهل التنبؤ بالوقائع التي يحتمل أن تظهر فيه. وفي هذه الحالة يكون النموذج البيروقراطي الكلاسيكي هو الشكل التنظيمي الملائم. ولكن ما يميز محيط المنظمات في الوقت الراهن هو غموض الآفاق وعدم اليقين بسب ارتباط حقوله بعضها ببعض، وتزايد وتيرة التغير وكثرة الاضطراب فيه. إن التغير السريع يولد الشعور بعدم اليقين. وفي هذه الحالة تكون الاستراتيجية الملائمة لمواجهة تحديات المحيط هي تلك التي ترتكز على مبدأ تفويض السلطة للأخصائيين والخبراء، ومبدأ المشاركة في التدبير ولامركزية القرار في كل ما يتعلق بآليات التحكم والتنسيق بين الأدوار والمهام وبين مختلف المستويات التنظيمية.

لقد جاء نموذج الزروف المتغيرة، في سياق يتميز بالتحولات السريعة، كرد فعل ضد النموذج البيروقراطي الكلاسيكي ونموذج العلاقات الإنسانية. وهكذا، فإذا كان النموذج الكلاسيكي يجعل من البيروقراطية الأسلوب الوحيد الممكن في التنظيم والتدبير، وإذا كان نموذج العلاقات الإنسانية من جهته يبحث عن أنسب طريقة للتحكم في آليات اشتغال مجموعة العمل، فإن نموذج الظروف المتغيرة يسعى إلى بلورة مقاربة مرنة مرتبطة بالسياق . يمكن القول بعبارة أخرى إنه يسعى إلى الكشف عن العلاقة بين مختلف مكونات المنظمة ومحيطها الخارجي، في محاولة لاستنباط بعض المبادئ النظرية القابلة للتجريب والتي يمكن استخدامها لرسم الخطط المتعلقة بإنجاز المهام الفردية من جهة، ولبلورة شبكة العلاقات بين المهام والعناصر التكنولوجية ووحدات العمل من جهة أخرى. يحاول هذا النموذج أن يحيط بمختلف المتغيرات التي لها علاقة مباشرة بدائرة الشغل في أية منظمة مهما كان نوعها. وفيما يلي قائمة بأهم هذه المتغيرات:

§        ارتباط المهام بعضها ببعض.

§        درجة الغموض وعدم اليقين المرتبطين بالجانب التكنولوجي في المنظمة.

§        وتيرة التغير المحتمل في المجال التكنولوجي.

§        درجة التنسيق بين مختلف المهام والمستويات التنظيمية.

§        تفويض السلطة ودرجة اللامركزية في علاقتهما بما يتطلبه إنجاز المهام.

§        حجم المنظمة ومقدار الإجراءات والعمليات التنظيمية.

§        العلاقة بين المنظمة ومحيطها الخارجي.   

3-1- نظم التحكم والتدبير في محيط يكتنفه الغموض وعدم اليقين

يميز الباحثون، الذين ينظرون إلى المنظمات في ضوء علاقتها بالسياق، بين ثلاثة أنواع من المحيط التنظيمي، وذلك حسب درجة الاستقرار ووتيرة التغير، ودرجة الارتباط بين الدوائر والمجالات التي تندرج في تكوين المحيط، وهي[5] :

§        المحيط "الهادئ العشوائي" ، وهو أكثر أنواع المحيط بساطة.. تكون الوظائف التي تؤديها المنظمات الموجودة فيه منفصلة بعضها عن بعض، لا تربط بينها أية علاقة.

§        المحيط "الهادئ المتجمع"، وفيه تكون بنية المنظمة من النوع "الميكانيكي" الذي تمثل البيروقراطية الكلاسيكية نموذجها الأمثل.

§        المحيط "المضطرب التفاعلي" ، وهو أكثر أنواع المحيط تعقيدا، وفيه تكون بنية المنظمة بنية متعددة المراكز، تتمتع فيها مختلف الوحدات التي تتألف منها بدرجة عالية من الاستقلال، وتعتمد على أسلوب التدبير العضوي.

وعلى هذا الأساس يميزون في أساليب التدبير بين نوعين يتلاءم كل واحد منها مع سياق معين. هناك، من جهة، أسلوب التدبير "الميكانيكي"، وهو الأسلوب الذي يتناسب، في نظرهم، مع متطلبات المنظمة التي توجد في السياق الذي يتميز بنوع من الاستقرار والثبات النسبي. وهناك، من جهة أخرى، أسلوب التدبير "العضوي" وهو الأسلوب الأكثر تلاؤما مع متطلبات المنظمة التي توجد في محيط يتميز بالتغير السريع وعدم اليقين[6]. لا يختلف الأسلوب الأول عن الأسلوب البيروقراطي التقليدي الذي يحدد الأدوار بدقة متناهية، ويفرض احترام مبدأ التراتب والتواصل العمودي. وأما أسلوب التدبير العضوي فإنه يشتغل وفقا لمبادئ المنطق الضبابي ، يحدد الأدوار بطريقة مرنة وفضفاضة، ويركز على التواصل الأفقي، ولامركزية القرار، وتوزيع السلطة.

تدل العديد من الدراسات والبحوث الميدانية على أن المنظمات التي توجد في محيط مضطرب وغير مستقر تميل أكثر إلى استخدام نمط التدبير العضوي، بينما تميل المنظمات التي توجد في محيط هادئ ومستقر نسبيا إلى استخدام نمط التدبير الميكانيكي. نستنتج من ذلك أن استقرار المحيط يساعد على تشكل البنيات البيروقراطية ويدعمها. هذا قانون عام، يمكن صياغته على النحو التالي: كلما كانت درجة استقرار المحيط مرتفعة مالت المنظمات أكثر إلى الأسلوب البيروقراطي في التنظيم ونمط التدبير الميكانيكي. يمكن القول بعبارة أخرى إن الاستقرار ينتج البيروقراطية، أو أن البيروقراطية هي وليدة المحيط الهادئ. مما يدل على مدى أهمية الدور الذي يلعبه المحيط في تحديد البنية التنظيمية. وأما العوامل الأساسية التي تتدخل في تحديدها فهي:

§        درجة استقرار المحيط

§        وتيرة التغير في المحيط الخارجي للمنظمة

§        درجة عدم اليقين

§        درجة الغموض والالتباس

§        مدى الارتباط بين مختلف دوائر المحيط وتداخلها.

يتبين من هذا التحليل أن نموذج الظروف المتغيرة يركز على العلاقة بين طبيعة البنية التنظيمية وأنماط التدبير ودرجة تعقد المحيط. وفي إطار هذه الشبكة من العلاقات، يولي قدرا كبيرا من الأهمية لمسألة العلاقة بين خصائص البنيات التنظيمية وأنواع التكنولوجية المستعملة.

3-2-العلاقة بين خصائص البنية التنظيمية وأنماط التكنولوجيأ المدرسية

يحيل مفهوم التكنولوجيا، كما يتصورها دعاة نموذج الظروف المتغيرة، إلى فكرتين مترابطتين: تتعلق الأولى منها بسير العمل في المنظمة، والثانية بالوعي بالعلاقة بين السبب والنتيجة خلال فترة إنجاز المهام الوظيفية. إن التمييز بين مستوى الفعل ومستوى الوعي كالتمييز بين الهاردوور والسوفتوور في لغة المعلوميات[7]. يرى لورتي أنه إذا كان من الممكن وصف التيكنولوجيا المدرسية بالمعنى الأول، فإنه من الصعب الحديث عن التكنولوجيا المدرسية بالمعنى الثاني. يرجع السبب في ذلك إلى أن "المعرفة بالتكنولوجيا المدرسية تعاني من ضعف معرفتنا بالسلوك البشري وعدم توفرنا على بيداغوجيا علمية"[8]. ولكنه وجد في تصنيف تومبسن ما يساعده على تسليط بعض الضوء على التكنولوجيا المدرسية. يميز تومبسن بين ثلاثة أنواع من التكنولوجيا[9] ، وهي:

§        "التكنولوجيا التي تلعب دور الوسيط"، وهي التي يستعملها الناس لتلبية حاجاتهم، وتعتبر من أكثر أنواع التكنولوجيا بساطة.

§        "تكنولوجيا الارتباط البعيد المدى" ، تاخذ شكل خطة تتجلى من خلال "إنجاز المهام على مراحل وفقا لترتيب معين".

§        "التكنولوكيا الكثيفة" ، وهي لا تستند في إنجاز المهام على معيار كوني أو شمولي، بل تركز على ما يتطلبه إنجاز مشروع يراعي خصوصية الفرد.

يرى لورتي أن التكنولوجيا المدرسية غالبا ما تكون من النوع الثاني، وأحيانا تكون من النوع الثالث. إن النمط التكنولوجي الثاني الذي يقوم على توحيد المعايير والمقاييس، ويحدد مراحل أداء المهام هو النمط التقليدي السائد. ولكن هناك دلائل تشير إلى وجود ميل إلى الانتقال من النمط الثاني إلى النمط الثالث، كاللجوء إلى أساليب التدريس الخاصة ببعض الفئات، وإلى البرامج التي تتلاءم مع حاجات بعض الأفراد دون غيرهم. هناك ضغوط خارجية ومتطلبات داخلية تدعم الميل إلى الانتقال إلى نمط التكنولوجيا الكثيفة. لقد أصبحت المنظمة المدرسية بحكم انفتاحها المتزايد على المحيط أكثر تعقيدا مما كانت عليه في السابق. وفي هذا السياق كان لابد من أن تتراجع التكنولوجيا البعيدة المدى لتفسح المجال للتكنولوجيا الكثيفة التي تراعي الفروق الفردية وتتعامل مع الحالات الخاصة. يمكن القول في ضوء ما سبق، إن ميل المنظمات المدرسية إلى التنظيم ذي البنية العضوية يرافقه الميل إلى استخدام التكنولوجيا الكثيفة. يتجلى ذلك من خلال تزايد الاهتمام بالتدبير العضوي للمؤسسات التعليمية، وابتكار آليات جديدة للتنسيق بين المهام من خلال تبني مبدأ العمل الجماعي، وإنشاء فرق التدريس ، وتشجيع العمل بروح الفريق.

ينسجم هذا التوجه مع ما يدعو إليه نموذج الظروف المتغيرة. فهو يؤكد على أهمية التواصل بين الفاعلين التربويين باعتباره العامل الأساسي الذي يحدد شكل التنظيم المدرسي، ويدعم برامج تنمية التنظيم في أفق الانتقال من التنظيم الميكانيكي/البيروقراطي إلى التنظيم العضوي. يعرف فرينش وبيل تنمية التنظيم بأنها "المجهود المبذول على المدى البعيد لتطوير قدرة المنظمة على حل المشكلات وقدرتها على تجديد آلياتها، وذلك من خلال نشر ثقافة تنظيمية تقوم على أساس مبدأ المشاركة في التدبير "[10]. تهدف حركة تنمية التنظيم المدرسي إلى تشكيل تصور إيجابي لدى المدرسين عن المؤسسة التعليمية باعتبارها نظاما موجها نحو تحقيق هدف ينسجم مع تطلعاتهم المهنية، ورغبتهم في تحقيق الذات، وتحسين نوعية الحياة ونوعية التواصل فيها. مما يدل على أن الهدف الأساسي لهذه الحركة هو الحد من ظواهر الاستلاب في أوساط المدرسين ضمن استراتيجيتها الشاملة لتغيير الثقافة التنظيمية.

تقوم استراتيجية التغيير في إطار حركة تنمية التنظيم المدرسي على الاعتقاد بعدم قابلية النظم التي تتميز بدرجة عالية من التعقيد للتغير بطريقة ميكانيكية تحت تأثير القوى الخارجية أو القرارات الإدارية. إن تفعيل برامج التغيير يتوقف على مدى قدرة القادة على كسب الولاء لجهود الإصلاح، وخلق تجاوب استراتيجي مع التغيير. من خلال توسيع ودعم شبكة التواصل بين مختلف الفاعلين في ميدان التربية والتعليم، وتكثيف عمليات التفاعل البيشخصية.

يبدو، في ضوء التحليل السابق، أن دعاة تنمية التنظيم لا يولون قدرا كبيرا من الأهمية للبنية الشكلية. ولا يتعاملون مع البنية التنظيمية باعتبارها كيانا نهائيا ومسلما به. إن البنية التنظيمية لا تتمتع في نظرهم إلا بوجود مؤقت، لأنها ضاربة الجذور في الواقع الذاتي للأفراد، ترتبط ارتباطا وثيقا بتوجهاتهم. ولذلك يأخذ التدخل لإحداث التغيير شكل عملية من عمليات العلاج النفسي التي تجعل من كسر العلبة السوداء في نظم التواصل الخطوة الأولى في اتجاه التغيير. ويصبح الهدف في هذه الحالة هو بعث روح التعاون في نفوس الأفراد، والقضاء على العزلة والانطواء والانغلاق على النفس. ومن هنا يبرز التقويم باعتباره آلية من الآليات المهمة التي تؤهل الأفراد لقبول التغيير الذي يشمل واقعهم الذاتي (العلاقات البيذاتية، والانفتاح، والرغبة في التعاون الخ..)، وتؤهلهم أيضا لقبول ثقافة الإجماع من خلال نشر المواقف والاتجاهات الإيجابية نحوه. وتجدر الإشارة، بهذا الصدد، إلى أن الإجماع يعتبر من بين الأهداف الأساسية التي تسعى إليها حركة تنمية التنظيم المدرسي.

يتبين مما سبق أن نموذج الظروف المتغيرة يستعمل كوسيلة لإحداث التغيير في المنظمات المدرسية أكثر مما يستعمل كوسيلة للتحليل. وتبين أن استراتيجيته في التغيير تعتمد على بنية تنظيمية ترتكز على مبادئ المشاركة والتعاون التي يفرضها التنوع المتزايد في مدخلات الأنظمة التعليمية، كما تفرضها التغيرات السريعة التي يشهدها المحيط الخارجي. وتعتمد هذه الاستراتيجية في قيادة التغيير على أسلوب التدبير العضوي الذي يشرك مختلف الفاعلين التربويين في عمليات الإشراف ومراقبة سير الأعمال، وفي عملية اتخاذ القرارات. وأما الهدف من هذه الإجراءات كلها فهو الزيادة في فعالية المنظمة المدرسية. وتتجلى درجة الفعالية في معدلات الإهدار، والتغيب، والجنوح، وفي مستوى أداء التلاميذ، ونوعية حصيلة التعلم.

3-3-نتائج بعض البحوث الميدانية  

لعل من أبرز البحوث الميدانية التي أجريت في ضوء نموذج الظروف المتغيرة هي تلك التي سعت إلى اختبار الفرضية التكنولوجية (فرضية العلاقة بين خصائص البنية التنظيمية ومستوى التطور التكنولوجي). ركزت هذه البحوث على ثلاثة عناصر من بين العناصر التكنولوجية الجديدة التي أدرجت في عملية التعليم، وهي: الفضاء المفتوح، فرق التدريس ، وأساليب التدريس والتعلم التي تتعامل مع الحالات الخاصة، وتأخذ بعين الاعتبار الفروق الفردية. أجريت هذه البحوث في الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا وبريطاني، وأستراليا، ونيوزيلندة، وهي البلدان التي استعملت هذه التكنولوجيا على نطاق واسع في التعليم الابتدائي بالخصوص. لجأت هذه البلدان منذ فترة الستينات من القرن الماضي إلى التصميم المفتوح للبنايات المدرسية (البنيان غير المطوق بالحواجز) لاعتبارات اقتصادية. جاءت تقنية البنيان المفتوح كبديل لتصاميم الحجرات المتمايزة المنغلقة الموروثة عن القرن التاسع عشر، والتي استمر العمل بها طيلة القرن العشرين في معظم البلدان. انتشر استعمال التصميم الجديدة بسرعة في العديد من الدول المتقدمة، وارتفع عدد المدارس ذات البنيان المفتوح لتصل نسبتها إلى أكثر من 50 % في وقت وجيز[11].

ومن بين النتائج الأولية التي توصل إليها الباحثون الذين اهتموا بدراسة تأثير التصميم الجديد في سلوك الفاعلين التربويين وجود علاقة بين متغير البنيان المفتوح وعلاقة التبعية المتبادلة بين المدرسين. عبر كوهن عن هذه المسألة بقوله إن »العمل في الفضاء المفتوح يضطر المدرسين إلى التعاون فيما بينهم بشكل من الأشكال، كالتعاون مثلا من أجل برمجة الأنشطة الهادئة والأنشطة الصاخبة، واستعمال موارد مشتركة « [12]. إلا أن بعض الدراسات الميدانية التي تناولت مسألة العلاقة بين الفضاء المفتوح والسلوك المتوقع أخفقت في إثبات وجود علاقة ارتباط جوهرية أو علاقة سببية بين المتغيرين، حيث تبين أن »سلوك المدرسين لم يستجب لتوقعات المصممين «[13]. وخلص الباحثون إلى القول إن الفضاء المفتوح ييسر عمليات التفاعل الأكثر تطورا بين المدرسين كالعمل بروح الفريق مثلا، ولكنه لا يضمنها.

والملاحظ أن تطبيق تصميم البنيان المفتوح رافقه العمل بتقنية فريق التدريس في المدارس الجديدة. يأخذ العمل بهذه التقنية أشكالا عديدة كالتخطيط الجماعي، والتقييم الجماعي للدروس المنجزة، وعلاقة التبعية المتبادلة بين أعضاء هيئة التدريس. عرف شابلين تقنية التدريس بروح الفريق بأنها» شكل من أشكال تنظيم التدريس الذي يشمل المدرسين والتلاميذ الموكولين إليهم، تسند فيه المسؤولية لمدرسين اثنين أو أكثر، يشتغلون معا على أجزاء مهمة من برنامج التدريس الخاص بمجموعة معينة من التلاميذ«  [14] . وعلق تيلر Tyler ،الذي أورد هذا التعريف في المؤلف المشار إليه، بقوله: إذا كان كل أسلوب من أساليب التدريس يستلزم توفر الحد الأدنى من التعاون بين المدرسين، فإن أسلوب فرق التدريس يتطلب نوعا مختلفا من تنظيم العمل، وهو التنظيم الذي يرتكز فيه التنسيق بين المهام على مبدأ التبادلية وعلاقة التماثل بين أعضاء هيئة التدريس. ويرى لورتي أن وظيفة بنية التنسيق هذه تنسجم مع التكنولوجيا الكثيفة أكثر مما تنسجم مع تكنولوجيا الارتباط البعيد المدى التي تخضع فيها مختلف الإجراءات والعمليات لمنطق التسلسل [15] . وعندما انتشرت المدارس ذات الفضاء المفتوح على نطاق واسع في الدول المتقدمة بدا أسلوب التدريس التقليدي يتراجع بشكل ملحوظ، منذ بداية السبعينات من القرن الماضي، ليحل محله أسلوب التدريس بروح الفريق. انتبه الباحثون إلى هذا التطور، وانكبوا على دراسة العلاقة بين العامل التكنولوجي، وتنظيم العمل، وآليات التدبير في المنظمات المدرسية.

تركز اهتمام الباحثين في مجال التعليم الثانوي في الولايات المتحدة الأمريكية على دراسة العلاقة بين العناصر التكنولوجية والبنية التنظيمية التي تقوم على مبادئ التعاون والمشاركة، والتي ظهرت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية كاستجابة لتنوع مدخلات الأنظمة التعليمية من جهة، وللتغيرات السريعة التي طالت النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من جهة أخرى. وفي هذا الإطار توصل إلى وجود علاقة ارتباط مهمة بين بنية التدبير العضوي ، التي تتجلى من خلال تقاسم أدوار المراقبة والإشراف، والعمل بالفرق ذات الوظائف المتداخلة والمتقاطعة، والمشاركة في اتخاذ القرارات، وبين فعالية المنظمة التي تدل عليها مؤشرات الإهدار، والتغيب، والجنوح، الخ. وتوصل روتر ومجموعته إلى نتائج مماثلة، حيث أكدوا على وجود علاقة جوهرية بين المتغيرات البنيوية والمؤشرات السابقة الذكر. ولعل من بين أهم النتائج التي انتهوا إليها أن التعاون بين المدرسين هو العامل الأكثر تأثيرا في فعالية المنظمات المدرسية. كتب فريق البحث يقول بهذا الصدد: » إن ما يثير الانتباه هو أن المدرس في المدارس الأقل نجاحا غالبا ما يترك وهو يهيأ دروسه ويخطط لعمله وحيدا، ولا يتلقى من زملائه ذوي التجربة الطويلة إلا قدرا قليلا من التوجيه والإشراف. وكذلك تكون درجة التنسيق مع غيره من المدرسين، لضمان التماسك بين الدروس التي يتم تلقينها في مختلف المستويات، ضعيفا جدا « [16] . وتوصلت دراسة أخرى[17] إلى أن تصورات التلاميذ لعمليات التفاعل بين المدرسين تؤثر بشكل قوي في سلوكهم، وتحدد بالتالي مستوى الأداء عندهم.

 وكشفت البحوث التي أجريت في ميدان التعليم الابتدائي عن وجود علاقة بين التنظيم المدرسي وأسلوب العمل بروح الفريق في مجال التدريس.  حيث تبين أن أسلوب التدريس الجديد أدى إلى انتقال مركز الثقل في نظم المراقبة الخاصة ببرامج التدريس من رئيس المؤسسة إلى فرق التدريس، كما أنه أدى إلى التقليل من عزلة المدرسين، وإلى ازدياد درجة الانفتاح والشفافية في عمليات التفاعل بينهم، وارتفاع مستوى رضاهم عن العمل وشعورهم بالاستقلال، وذلك على الرغم من أن العلاقة بين الفضاء المفتوح وعمليات التفاعل بين المدرسين ظلت ضعيفة على العموم. يمكن القول، بصفة عامة، إن تطوير طرق العمل وتكنولوجيا التدريس في المدارس المصممة بشكل مفتوح ساعدت على تنامي الحركة المهنية للمدرسين، والتخلص من سلبيات الهيكل البيروقراطي، وعلى إرساء بنية تنظيمية على أساس مبادئ اللامركزية وتفويض السلطة والمشاركة في اتخاذ القرارات.

تؤيد هذه النتائج أطروحة نموذج الظروف المتغيرة التي تقول إن تنامي التكنولوجيا الكثيفة في ميدان التعليم يرافقه تغير في أنماط التنظيم والتنسيق بين المهام، وفي نظم المراقبة والإشراف على سير العمل. وهكذا، فعندما يجد المدرسون أنفسهم في فضاء مفتوح تكون الظروف قد تهيأت لإزالة الحواجز التي تفصل بعضهم عن بعض، وبعث روح التعاون في نفوسهم، وتنمية القدرة على العمل بروح الفريق. ويكون من نتائج ذلك ازدياد الميل إلى ارتباط المهام بعضها ببعض ارتباطا عضويا. وعندما يحصل الوعي بالارتباط العضوي بين المهام يكون من السهل على المدرس قبول التقويم الجماعي لأنشطة التدريس.[18] . وتجدر الإشارة إلى أن التقويم الجماعي هو آلية من آليات التحكم الأكثر فعالية بالمقارنة مع آليات الضبط والتحكم التقليدية لأنه يفترض الاعتراف بالمسؤولية عن نتائج العمل. إن التقويم الجماعي هو أسلوب التحكم من الداخل في سير العمل. ولذلك يمكن اعتباره العنصر الأساسي الذي يميز أسلوب التدبير العضوي عن أسلوب التدبير البيروقراطي الميكانيكي.  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]    Conrad,C.(1985). Strategic organizational communication. Culture, situation and adaptation,New York, Chicago, Holt : Rinehart and Winston.

[2] Blake, R. and Mouton, J.S. (1976).  « When scholarship fails.Research suffers », Administrative

   Science Quarterly, no. 21, pp. 93-96.

[3] Conrad, C. (1985). Strategic organizational communication : culture, situation and adaptation, New

  York, Chicago : Rinehart and Winston.

[4] Perrow, C.(1973). Complex organizations : a critical essay  Glenview, Scott, Foresman.

[5] Tyler, W.(1988). School organisation, New York, Croom Helm , p. 69.

 

[6] Clegg, S. And Dunkerley, D.(1980). Organisation, class and control, London, Routledge and Kegan

   Paul

[7]Lortie, D.C.(1977).  « Two anomalies and three perspectives :some observations on school

  organization », in R.G.Corwin and R.A Edelfelt (eds).Perspectives on organization : the school as an

  organization, AACTE/ATE , Washington, DC.

[8] Lortie, D.C. op. cit. p. 35.

[9] Thompson, J.G.(1987).organizations in action, New York, McGraw-Hill.

[10] French,W.L. and Bell, C.H (1973). Organization development : behavioral science interventions for

    organization improvement. New Gersey, Printice Hall, Englwood Ccliffs, p. 13

[11] Bennett, N. and Hayland, T. (1979). « Open plan – open education », British Educational Research

    Journal, vol. 5, pp. 159-166.

[12] Cohen, E.G.(1981). « Sociology looks at team teaching », in A. Kerckhoff and R.G. Corwin (eds).

    Research in sociology and socialization : research in educational organizations, Greenwich, Conn.,

    Jai, Vol. 2, p. 164.

[13] Bennett, N. and Hayland, T. (1979). Op. cit. p. 164.

[14] Tyler, W.(1988). School organisation, op.cit., p. 75-76.

[15] Lortie, D.C.(1975). The schoolteacherM a sociological study, Chicago: University of Chicago Press

[16] Rutter, M , Maugham,B ,Mortimore, P, Ouston, J. and Smith, A.(1979). Fifteen thousand hours :

    secondary schools and their effect on children, London, Open Books, p. 136.

[17] َAinley, J. Reed, R. and Miller, H.(1987).School organization and the quality of schooling : a study of     Victorian government scondary schools. ACER, Research Monograph, no 29, Melbourne.

[18] Cohen, E.G.(1981). « Sociology looks at team teaching »,  op. cit.

Partager cet article
Repost0

Recherche

Archives

&Amp;#1593;&Amp;#1606;&Amp;#1575;&Amp;#1608;&Amp;#1610;&Amp;#1606; &Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1605;&Amp;#1602;&Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1575;&Amp;#1578;

دروس في الفلسفة

Liens