Overblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
30 juin 2008 1 30 /06 /juin /2008 19:25

مهنة التدريس

في مواجهة التنظيم البيروقراطي للتعليم

أحمد أغبال

. 1. وضعية المدرس

إذا كان الباحثون في علوم التربية قد أولوا مكانة خاصة للمدرسين في بحوثهم، فإن اهتماماتهم انصب في معظم الأحيان على أدوارهم البيداغوجية والتربوية، وعلى مكانتهم في نظام التعليم باعتبارهم فاعلين تربويين. وإلى عهد قريب، ظلت نظرية الدور théorie des rôles المرتبطة بالنظرية الوظيفية توجه معظم البحوث التي تناولت المدرسين لما توفره من إمكانيات هائلة للقيام ببحوث ميدانية لسهولة أجرأة مفاهيمها(Grace, 1978) . ولا يختلف الأمر بالنسبة للاتجاهات النقدية في علم الاجتماع ممثلة ببرنشطاين وبورديو، والتي أولت عناية خاصة لعلاقات المدرسين بالطبقات الاجتماعية والدولة، وانشغلت بدراسة دورهم السياسي-الأيديولوجي باعتبارهم عناصر فعالة في عملية معاودة الإنتاج على الصعيدين الاجتماعي والثقافي. يبدو وكأن هؤلاء الباحثين يتعاملون مع المدرس كما لو كان مجرد آلة في الجهاز التعليمي مسخرة لخدمة أهداف هذا الجهاز لا غير، كما لو أنه كائن يعمل لتحقيق حاجات الآخرين دون أن تكون له هو مصلحة خاصة في العمل الذي يقوم به، أو حاجة يسعى ألى تلبيتها من خلال كدحه. ولذلك تم إغفال الواقع الوجودي للمدرس وتجربته الذاتية في العمل.

إن رجل التعليم هو مربي، هذا صحيح، ولكنه ليس مربيا على الطريقة المثالية السقراطية. كان سقراط يتسكع في شوارع أثينا وسخا عاري القدمين يعلم الحكمة للشباب ويوصيهم بالنظافة والأناقة، ولا يتقاضى أجرا على ذلك .(Encyclopédie de la Pléiade, 1974) ما هو مورد رزقه؟ وماذا كان يجني من عمله ؟ مورد رزقه أهملته ذاكرة المؤرخين، ربما لأن سقراط نفسه قلل من قيمته وتعالى عليه. وأما بخصوص المسألة الثانية، فلا شك أنه كان يجني المتعة في تبليغ الرسالة وتحقيق الذات. لم يشتغل سقراط في إطار مؤسساتي، ولكن في فضاء الأغورا، متحررا من ضغوط العمل والمراقبة المؤسساتية، فهو المشرع والمبرمج والمنفذ، تلك هي مقومات البطولة.

كان سقراط بطل زمانه الأكبر. كان يواجه مختلف القوى الاجتماعية مؤمنا بقدرته على التأثير فيها. لم يطمح إلى الارتقاء ماديا، ولكن إلى التسامي الروحي. فلو كان طموحه هو الترقية المادية وتسلق السلم الاجتماعي لكان حرمانه من مورد الرزق كافيا لعقابه وردعه، لذلك توجه العقاب إلى صد الروح عن تساميها بقتله.

رجل التعليم في زماننا كادح بالمعنى المعاصر لكلمة الكدح. إنه بروليتاري، بغض النظر عن طبيعة العمل الذي يقوم به والذي هو عمل فكري أو ثقافي .(Orga and Lawn, 1981) يشير  مفهوم البلترة عند أورغا إلى العملية التي تحصل عندما يفقد العامل القدرة على برمجة أعماله وعلى إنجازها، تتمثل تلك العملية أساسا في نقل مهاراته خارج ميدان العمل. يترتب عن هذه الوضعية تقلص دائرة استقلال المدرس الكادح، واشتداد المراقبة عليه، وتدني مهاراته، وتوتر علاقاته مع الإدارة. كانت هذه المشاكل تخص عمال المصانع في مرحلة أولى، ثم انتشرت بعد ذلك لتعم أوساط المدرسين وجميع ذوي الياقات البيضاء.

2. العمل والحاجات البشرية.

لقد اتجهت الأعمال في عصرنا الراهن نحو مزيد من التجانس، وبدأت تنمحي الفوارق بين العمل اليدوي والعمل الفكري. لذلك لزم أن ننظر إلى المدرس على أنه عامل بروليتاري قبل أن يكون مربيا، وظف لتربية الناشئة وفقا لبرامج وأهداف لم يخترها ولم يشارك في وضعها، وربما تعارضت مع ما يطمح إليه، وهو يتقاضى أجرا مقابل خدماته، وليست له سيطرة على الوضعية التعليمية التي تحكمها مبادئ بيروقراطية تخرج عن نطاق إرادته وتحكمه.إن ضغوط العمل التي تميل إلى سحق ذات المدرس الكادح، وفقدان القدرة على السيطرة على الأوضاع  هي الخصائص الأساسية التي يعبر عنها مفهوم البلترة، وهي التي تحدد حقيقة وجوده كمدرس. لذلك اعتبرت مسألة الشغل من القضايا الأساسية التي تهم جميع الكائنات البشرية، وأصبح مفهوم الشغل يحتل مكانة مركزية في جميع العلوم (Galtung ;1985). هذا ما عبر عنه الباحث رشارد براون بقوله أن أهم الأسئلة وأكثرها خصوبة في علم الاجتماع هو ذلك السؤال الذي نطرحه على الناس لمعرفة ماذا يعملون، لأنه يمكننا من معرفة حقيقة تجربتهم في الحياة ( أورد. (Burgess, 1986 وهذا ما ذهب إليه هوغس Hughes أيضا حين قال بأن مفهوم العمل هو مفتاح معرفة حياة الإنسان ووجوده الاجتماعي وهويته ( اورده هارتنت Hartnett (1982). وقد سبق لولر (Waller, 1932) أن طرح هذا السؤال بالنسبة للمدرسين قبل عدة عقود وصاغه على الشكل التالي : ماذا يصنع فعل التعليم بالمعلمين ؟ وما هي محددات مهنة التعليم ؟ غير أن الجواب عن هذا السؤال ظل عالقا زهاء نصف قرن، ولم يبدأ الاهتمام بشكل جدي بقضايا العمل التربوي ودلالاته بالنسبة للمدرسين، وضغوطه عليهم، وآثاره على نفسيتهم وروحهم المعنوية إلا في بداية السبعينيات. وتعتبر أعمال كيدي (Keddie, 1971). وأعمال شارب وغرين.(Sharp and Green, 1975) رائدة في هذا المجال. فقد حاولوا تسليط الضوء على الواقع الذاتي للمدرسين في علاقته بضغوط العمل في إطار وضعية محددة. ثم درس رنلد غراس بعد ذلك تأثير ظروف العمل على وعي المدرسين البريطانيين من منظور اجتماعي-تاريخي على إمتداد النصف الثاني من القرن التسع عشر والقرن العشرين (Grace, 1978).

وإذا كان المدرس من جملة الكادحين الذين يشتغلون في وضعيات وظروف قاهرة، فإنه إنسلن يتميز بما لديه من إرادة ونزوع إلى الحرية والاستقلال، وبما له من حاجات فيزيولوجية وسيكولوجية. لذلك، فإن أية نظرية في العمل لابد وأن تنطوي على تصور معين لدوافع الإنسان وحاجاته. ذلك لأن مفهوم الحاجة يساعد على فهم حقيقة وجوده الاجتماعي وواقعه الذاتي في تفاعله مع مختلف عوامل محيط العمل. وقد حاول بعض الباحثين المهتمين بدراسة ظاهرة الشغل في المنظمات الصناعية وغيرها بلورة نظرية عن الحاجات على أساس تصور معين لطبيعة الإنسان. ولعل من أشهر الإنجازات التي تحققت في هذا المجال تلك التي ترتبط بأسماء كل من أبرهام ماصلو (Maslow,1954) وفردريك هرزبرغ(Hertzberg,1966) وجوهان غالتونغ (Glatung,1985).

يرى ماصلو أن القوة الدافعة في العمل هي الرغبة في تلبية مجموعة من الحاجات. ولكن هذه الحاجات لا تفرض نفسها على الفرد دفعة واحدة وفي وقت واحد، بل تظهر الواحدة منها تلو الأخرى وفقا لمنطق الأوليات الذي يحكم تراتبها. وأول ما يظهر من الحاجات عند الفرد، في نظره، هي الحاجات الفيزيولوجية التي تفصح عن نفسها بواسطة الشعور بالجوع والعطش الخ. تليها الحاجة إلى الأمن، وهي تفصح عن نفسها من خلال الخوف من انقطاع الموارد التي تلبي الحاجات السابقة، ثم تأتي بعدها الحاجات الاجتماعية، وهي تتمثل في الرغبة في إقامة علاقات ذات معنى ودلالة مع الآخرين، وتليها الحاجة إلى الاعتبار الذاتي، ويقصد بها اعتبار الشخص لذاته وتقدير الآخرين له. وعندما تتحقق هذه الحاجات كلها يشعر الشخص بالرغبة في تحقيق الذات self actualization وهي اسمى الحاجات كلها على الإطلاق، وتتحقق عندما يشعر الشخص بأن ما يفعله يتطابق تماما مع ما ينوي ويقصد فعله. ويرى ماصلو أن الحاجات العليا لا يستشعرها المرء إلا إذا استطاع تحقيق ما دونها في الرتبة أو على الأقل تحقيقها بنسبة مهمة.

وأما هرزبورغ فإنه انطلق من نظرية ماصلو ليؤسس نظريته المشهورة باسم " نظرية الحوافز والوقاية الصحي"Motivator hygiene theory، ويميز فيها بين نوعين من الحاجات :

أ- الحاجات التي يتوقف إشباعها على ما يسميه هرزبرغ عوامل الوقاية الصحية hygiene factors  في محيط العمل. يتعلق الأمر بالحاجات الفيزيولوجية والاجتماعية والحاجة إلى الأمن. وأما عوامل الوقاية الصحية فيقصد بها سياسة المنظمة وإدارتها وأجهزة المراقبة والأجور والعلاقات البيشخصية وظروف العمل. يحول إشباع هذه الحاجات دون تولد الشعور بالأسى والألم، ولكنه لا يخلق الشعور بالمتعة والرضا. وأما عدم إشباعها فإنه يولد الألم والقلق والانزعاج والشعور بالحرمان وعدم الرضا.

ب- الحاجات التي ينم إشباعها عن ارتقاء الذات وتناميها  كالحاجة إلى اعتبار الذات والحاجة إلى تحقيقها، وهي ترتبط بالعوامل المحفزة motivator factors كالإنجاز والمسئولية والاعتراف بالإنجاز وتقديره وإمكانيات الترقية وطبيعة الشغل ذاته. عندما يتسنى للشخص إشباع هذه الحاجات فإنه يشعر بالمتعة والرضا والارتياح. ولكن عدم إشباعها لا يولد الشعور بالأسى والألم ولا بالحرمان وعدم الرضا.

تختلف العوامل التي تفسر ظاهرة الاستياء وعدم الرضا عن العمل، حسب هذه النظرية، عن العوامل المسئولة عن تنامي الشعور بالرضا عن العمل. ذلك لأن الرضا عن العمل يرتبط بعوامل الوقاية الصحية، فإن كان تقدير الفرد لهذه العوامل سلبيا فإنه سيكون عرضة لمشاعر الحرمان والإحباط وعدم الرضا عن العمل، وإذا كان تقديره لها إيجابيا أمكنه التخلص من هذه المشاعر. ولكن الاتجاه الإيجابي نحو عوامل الوقاية الصحية، وإن كانت تساعد على التخلص من مشاعر الحرمان والإحباط وعدم الرضا، فإنها مع ذلك لا تولد الشعور بالارتياح والرضا عن العمل.  وأما الرضا عن العمل فإنه يرتبط بالعوامل المحفزة:  فإن كانت نظرة الفرد إليها إيجابية، أدى ذلك إلى تنامي الشعور بالرضا عن العمل. وأما النظرة السلبية إليها فلا يعتبرها هرزبورغ كافية للإيقاع بالفرد في ورطة الشعور بالحرمان.

ولقد استعمل أرجرس Agiris نظرية ماصلو لتفسير ظاهرة الاستلاب وانسلاخ الفرد عن واقع العمل، وعزى ذلك إلى التعارض القائم بين خصائص المنظمة وحاجات الفرد السامية، من حيث أن المنظمة لا توفر للفرد الشروط الضرورية لإشباع الحاجة إلى اعتبار الذات وتحقيقها.

وعلى الرغم من أهمية نظرية ماصلو وخصوبتها المتجلية فيما استلهمته من أعمال، فإنها تعرضت لانتقادات عديدة؛ إلا أن هذه الانتقادات لا تقلل من قيمتها، بل تشهد على خصوبتها بطريقة أخرى. ذلك لأن النقد لم يؤد إلى أحداث قطيعة نهائية معها، بل ساعد على تطويرها من خلال تعديلها وإغنائها. ولعل أهم ما يؤخذ على ماصلو قوله إن الحاجات لا تظهر دفعة واحدة وفي وقت واحد؛ ونفى بعض الباحثين أن تكون متراتبة ومتفاوتة من حيث قيمتها وأهميتها بالنسبة لحياة الإنسان(Galtung, 1985)..

وإذا كانت بنية الحاجات قد أخذت شكلا هرميا في نظرية ماصلو فإن غالتونغ قدم لنا تصورا آخر عنها، وميز فبها بين مجموعتين وهما : الحاجات المادية أو الفيزويلوجية والحاجات اللامادية أو الروحية. وقسم كل مجموعة منهما إلى قسمين، وهي الحاجات التي يتوقف إشباعها على السلوك الفعلي للشخص العياني المحدد، والحاجات التي يتوقف إشباعها على الإمكانيات التي تتيحها طريقة اشتغال البنيات الاجتماعية. ويترتب عن هذا التقسيم وجود أربعة أنواع من الحاجات، نوردها في الخطاطة التالية مرفقة بنقائضها موضوعة بين قوسين.

أنواع الحاجات ونقائضها

 

الحاجات التي يتوقف أشبعها على نشاط الفرد

الحاجات التي يتوقف إشباعها على طريقة اشتغال البنيات

الحاجات المادية

ضمان العيش والبقاء

(العنف، الموت)

 

الرفاهية والرخاء

(الفقر، الموت)

الحاجات اللامادية

الحرية

(القمع)

إثبات الهوية

(الاستلاب)

                  المصدرGaltung، 1985، ص 131.

يقصد بالرفاهية والرخاء الحالة التي يكون عليها الإنسان عندما تتحقق له كل شروط العيش كالمأكل والملبس والمسكن والادخار والتعليم والصحة ووسائل النقل والاتصال؛ ويمتد بعضها إلى مشارف الحياة النفسية أو الروحية للإنسان. وما يميز الحاجات المادية هو كونها معرضة باستمرار للانتفاء، إما بسبب العنف المباشر المؤدي إلى الموت، وإما بسبب العنف غير المباشر المرتبط بطريقة اشتغال البنيات، والذي يؤدي عبر الفقر إلى الموت البطيء. وأما الحاجات اللامادية فإنها ملازمة لحياة الإنسان، ولا يتوقف طهورها على ولوج مرحلة الرفاهية والرخاء، بل ربما وجدت لدى الحيوان أيضا، ولعل ما يدل على ذلك هي حالة الاكتئاب التي تظهر على الحيوانات البرية التي تمضي حياتها في سجن الحدائق.

ولما كانت نظرية العمل تقتضي بالضرورة نظرية الحاجات لزم النظر إلى المدرس باعتباره إنسانا يسعى، قبل كل شيء، من خلال نشاطه المهني، إلى ضمان العيش والرخاء، يلازمه في ذلك طموح إلى الحرية ولاستقلال وإثبات الهوية. ولكن، ماذا لو أدت طريقة اشتغال بنيات المنظمة  التي يعمل فيها إلى سلب حريته وهويته ؟

 

Partager cet article
Repost0
29 juin 2008 7 29 /06 /juin /2008 19:31

مهنة التدريس

في مواجهة التنظيم البيروقراطي للتعليم

(الجزء الثاني)

أحمد أغبال

3. عملية البلترة كنتاج للتعارض بين حاجات الفرد وحاجات المنظمة

لقد أثبت أرجيرس Argiris أن الخصائص البنيوية للمنظمات تتعارض في الغالب مع الحاجات اللامادية لأفرادها. هذا التناقض هو المبدأ الذي تقوم عليه عملية البلترة أو عملية المسخ حسب تعبير فرانز كافكا المجازي العنيف، وهي العملية التي تحول الكائنات البشرية إلى بهائم دون أن تحتاج في ذلك إلى بذل أي مجهود (Camus, 1942)، وهو تعبير مجازي آخر لا يقل عنفا عن التعبير السابق. يشير مفهوم البلترة في سياق هذا التحليل إلى حلة الإنسان الذي انتزعت منه حريته وهويته. وهو بهذا المعنى مرادف لمفهوم الاستلاب. تعني البلترة، حسب تعريف أورغا ولاون السابق الذكر، عملية نقل المهارات خارج ميدان العمل، وهذا ما يدل عليه مفهوم الاستلاب كما سنوضح ذلك فيما بعد.

استرعت هذه الوضعية انتباه العديد من الباحثين خلال العقدين الأخيرين، وعكفوا على تحليل مختلف مظاهرها وبيان آثارها السلبية على المنظمة ذاتها وعلى فعاليتها ومردودبتها. ولعل من أهم مظاهرها ما يشير إليه مفهوم " الاحتراق الداخلي"  burnout أو " الإرهاق المهني"  épuisement.professionnelيدل هذا المفهوم على الحالة التي تكون عليها منظمة تبدو من الخارج سليمة ومعافاة من كل أنواع الخلل بينما هي في الواقع معتلة منخورة من الداخل. ومن أعراض هذا المرض تراخي الطاقة العاطفية-الوجدانية، وتزايد الأعباء الذهنية والضغط النفسي ومختلف أنواع التوتر الناتجة عن الضغوطات الخارجية (Sarabach ; 1992). تظهر هذه الأعراض بقوة في مجالات التعليم والصحة وفي قطاع الخدمات على العموم. وهي تدل على وجود اختلالات وظيفية في حقل العمل داخل المنظمات ذات الطبيعة البيروقراطية، تتجلى في التعارض القائم بين ميول الفرد وميول المنظمة. يولد هذا التعارض ردود فعل عاطفية-وجدانية لدى الأفراد ترافقها الأعراض السابقة الذكر وامتداداتها النفسية-العضوية، وغالبا ما ينتهي الأمر بهؤلاء الأفراد إلى تغيير اتجاهاتهم وسلوكياتهم. يعرف باينس Pines  ومسلاش Maslach الاحتراق الداخلي بأنه "جملة من الأعراض المرتبطة بالإرهاق العضوي والانفعالي الوجداني التي تخلق عند الفرد تصورا سلبيا عن ذاته واتجاهات سلبية نحو العمل، وتصرفه عن الاهتمام بالأفراد اللذين أسندت إليهم مهمة العناية بهم" (Pines and Maslach, 1978). يتبين من هذا التعريف وجود علاقة بين ظاهرة الاحتراق الداخلي وظاهرة الاستلاب، وربما كانت هذه المفاهيم تعبر عن شئ واحد، ربما كانت أسماء لمسمى واحد. وما يؤكد ذلك هو تعريف شرنس Cherniss التركيبي المركز لظاهرة الاحتراق الداخلي، حيث وصفها بأنها انسلاخ سيكولوجي عن واقع العمل يأتي كرد فعل إزاء ضغوطه المفرطة (Cherniss, 1980)؛ وهذا هو ما يدل عليه مفهوم الاستلاب عند شباردShepard، حيث عرفه بأنه: "انسلاخ نفسي-اجتماعي عن واقع العمل.(Shepard, 1972)

وإذا نظرنا إلى ظاهرة الاحتراق الداخلي من جهة ما تحدثه من آثر في شخصية الفرد  فسنجد بأنها تختلف كثيرا عن ظاهرن الاستلاب. يؤدي الاحتراق الداخلي إلى نخر الشخصية من الداخل بتآكل مكونات حياتها العاطفية-الوجدانية، ومواردها، وطاقاتها، وقدراتها، وبانكماش الذات وانطوائها على نفسها، فتطمس هويتها وتنمحي. يتجلى ذلك من خلال الإرهاق النفسي-الوجداني والاتجاهات السلبية والكلبية الساخرة التي تتشكل عند المدرسين نحو تلامذتهم، وعدم اعتبار الذات أو تقديرها تقديرا سلبيا، وفقدان الثقة في النفس وفي القدرة على الإنجاز، والانطواء على الذات، وتقلص علاقات الفرد مع الآخرين(Srabach, 1992). هناك تشابه كبير بين هذه الأعراض ومظاهر الاستلاب. يتجلى ذلك بوضوح من خلال مقارنة تلك الأعراض بما يشير إليه رنالد أريك Urick في تعريفه لمفهوم الاستلاب، فهو يرى بأن " الاستلاب كلمة تشير إلى مشاعر بعض الناس وتصوراتهم عن أنفسهم وعن بعض مظاهر المحيط الاجتماعي، لما يوجد بين الذات والمحيط من روابط. إن هذه التصورات والمشاعر هي على العكس مما ذهب إليه الشاعر الإنجليزي جون دن john Donne في قصيدة يقول فيها: لا وجود للجزر في عالم الإنسان؛ كل شخص هو جزء من القارة."(Urick, 1977, p. 8) ومن مظاهر استلاب الفرد ميله إلى أن يصبح " جزيرة ""  منفصلة عن الآخرين حين يستحوذ عليه الاعتقاد بأن لا شيء يربطه بهم، فتفقد الحياة معناها في نظره، وتتلاشى عنده القيم والمعايير الخلقية، ويفقد السيطرة على الأحداث والوقائع، فيشعر بالعجز والوهن، ويفقد القدرة على الفعل والتأثير، ومن ثمة يفقد الثقة في النفس، ويحط من قدرها، فتتبخر هويته، ولا يستطيع بعد ذلك الإجابة، كما يقول أريك، عن السؤال : "من أنا ؟". قد تكون أعراض الاحتراق النفسي ناتجة عن تفاقم ظاهرة الاستلاب.

ويرجع الأصل في ذلك كله إلى اختلال التوازن بين موارد الفرد ومتطلبات المنظمة التي يعمل فيها، ويرجع بالخصوص إلى التعارض بين تصور الفرد للشغل وكيفية تنظيمه وطريقة إنجازه في المنظمات الحديثة. إن الشغل من حيث طبيعته هو " نشاط وجودي existential activity "حسب تعبير برانكو هرفت(Horvat, 1985). وبوصفه كذلك، فإن له وضعية أنطلوجية محددا؛ ولهذا الوضعية أبعاد عديدة، فيزيولوجية، واجتماعية، وسياسية، ونفسية أو روحية؛ ولهذه الأبعاد جميعها أهمية كبيرة في حياة الإنسان، فهي ضرورية لضمان عيشه، وسلامته العضوية والنفسية، كما أنها ضرورية لتحقيق ذاته لتكون للحياة عنده معنى، فينظر إلى العالم بنظرة إيجابية، وهذا هو مصدر سعادته. ذلك ما يفترض أن يتحقق في وضعية مثلى. " أما وأن تكون السلطة التي تراقب أفعالي في يد الغير، فإن من شأن ذلك أن يفصل الأفعال عني، وبما أن العمل نشاط وجودي فستكون لانفصاله آثار سيكولوجية واجتماعية عميقة على الفرد والمجتمع. إن استلاب العمل يخلق مجتمعا مستلبا." .(Horvat, 1985, p. 235)يعبر مفهوم الاستلاب هنا عن وجود شرخ في حياة الإنسان يفصل الذات عن نشاطها الوجودي ويفقدها السيطرة عليه. أما مفهوم الاحتراق الداخلي فإنه يحيل إلى التعقيدات النفسية والنفسية-العضوية المترتبة عن وجود ذلك الشرخ. وأما العملية التي تؤدي إلى حدوث ذلك التصدع فهي عملية البلترة كما حددها لاون وأورغا، والتي ترتبط بكيفية توزيع السلطة في المنظمات البيروقراطية وغيرها. ومن هنا ضرورة تحليل المنظمة المدرسية بهدف تحديد خصائص الوضعية التي يشتغل فيها المدرس وتناقضاتها لبيان آثارها المحتملة على وجوده.

4. طبيعة المنظمة المدرسية

يعرف إتزيونيEtzioni  المنظمات بأنها وحدات اجتماعية أنشئت وفقا لخطة معينة وأرسيت بنيتها بشكل إرادي لتحقيق أهداف معينة. يشمل مفهوم المنظمة المستشفيات والسجون والمؤسسة العسكرية والمؤسسات الدينية والتعليمية كالكنيسة والمدارس والجامعات. وتتميز المنظمات بتقسيم الشغل وتوزيع السلطة والمسئوليات بين أفرادها، كما تتميز بوجود مركز أو عدد من مراكز القرار وأجهزة المراقبة التي تسهر على ضبط السلوك وتوجيه الجهود نحو تحقيق الأهداف المسطرة (Etzioni, 1971) . وتعتمد المنظمات في تنظيم علاقات أفرادها بعضهم ببعض على مبادئ وقواعد شكلية. وتنشأ عن عملية التنسيق هذه بنية المنظمة التي تتميز بنوع من الاستقرار والثبات (Weiss, 1964)

يعكس مفهوم البنية طريقة توزيع المهام والسلطة والمسئوليات لضمان تحقيق الأهداف؛ وتعتبر البنية، بهذا المعنى، كيانا مصطنعا يقوم على أساس عقلي منطقي. إن الطبيعة العقلانية للمنظمات تفرض، من حيث المبدأ على الأقل، أن يسلك الفرد بطريقة عقلانية. ويقصد بالسلوك العقلاني هنا الالتزام التام بالخطة الشكلية وبالبرامج التي تضعها المنظمة لبلوغ أهدافها. يتعين على الفرد في وضعية مثلى، أن يغير " طبيعته الإنسانية " وذلك بأن يتخلى عن كل ما ليس بعقلاني، لتكون أكثر تلاؤما مع متطلبات المنظمة. غير أنه من الصعب تحقيق هذا المطلب في الواقع؛ ولهذا السبب، دعا بعض المهتمين بشؤون تدبير المنظمات من دعاة التنظيم العلمي (طايلور Taylor وفايول (Fayol إلى ضرورة إحداث ثورة على صعيد العقليات يكون هدفها هو جعل "الطبيعة الإنسانية" أكثر تلاؤما مع الطبيعة العقلانية للمنظمات(Argiris, 1964) . تقوم هذه الدعوة على فرضية مفادها أنه من الممكن التأثير في الإنسان لإجباره على التكيف مع ظروف المنظمة والاستجابة لمتطلباتها؛ وتستبعد هذه الفرضية إمكانية تصور بنية تنظيمية تتلاءم مع "الطبيعة الإنسانية". إن ما يجب تغييره في نظر دعاة التنظيم العلمي هو الإنسان، وليس النظام الشكلي المصطنع. لذلك سيظل التعارض قائما بين ميول الفرد وميول المنظمة؛ وسيظل هذا التعارض مصدر آلام ومآسي العاملين في المنظمات.

 

Partager cet article
Repost0
28 juin 2008 6 28 /06 /juin /2008 19:38

مهنة التدريس

في مواجهة التنظيم البيروقراطي للتعليم

(الجزء الثالث)

أحمد أغبال

 2.4. الحلول المقترحة لحل الصراع بين البيروقراطية والنزعة المهنية

حاول بعض الباحثين المهتمين بشؤون التربية والتعليم إيجاد حل لهذه المعضلة، فانشغلوا بالحث عن الأساليب الإدارية وأساليب القيادة الأكثر تلاؤما وانسجاما مع طبيعة مهنة التدريس (Halpin, 1958 ; Gibb, 1983 ; Cohen & march, 1983 ; Stogdill, 1973) ودعا بعضهم إلى ضرورة إضفاء مسحة إنسانية على وجه البيروقراطية. يأتي في مقدمتهم هلبين Halpin الذي طالب بضرورة اعتماد أساليب القيادة التي تحقق أهداف المنظمة دون أن تخل بالعلاقات الإنسانية. ينطوي أسلوب القيادة الناجح، في نظره، على بعدين يجب أخذهما دائما بعين الاعتبار: يتعلق أحدهما بتحقيق الأهداف goal achievement، ويتعلق الثاني برعاية مجموعة العمل وصيانتهاgroup maintenance.. ولستغدل Stogdill  رأي مماثل، فهو يرى أن أسلوب القيادة الناجح هو ذلك الذي يجمع بين درجة عالية من الاعتبار consideration الذي يظهره الرئيس لمرؤوسيه، من جهة، وقدرة عالية على الأخذ بزمام المبادرة لتنظيم المهام وهيكلتها وتوجيه الجهود نحو تحقيق أهداف المنظمةinitiatve structure. من جهة أخرى. ويرى جب Gibb بأن أسلوب القيادة السائد في مختلف أنواع المنظمات المدرسية هو الأسلوب الدفاعي defensive leadership، وهو أسلوب سلطوي يرتكز على المبادئ التي كشف عنها ماكغريغر  McGrigor  في نظريته المعروفة باسم نظرية theory X. وأما السبب في اللجوء إلى الأسلوب الدفاعي فهو الخوف وفقدان الثقة، بحيث يجد المرء نفسه في حلقة مفرغة: يخاف فيتسلط على الآخرين، ثم يزداد خوفا من ردود أفعالهم فيزداد تسلطا. ويرى جب Gibb بأن الحل يكمن في استئصال جذور الخوف وفي بعث مشاعر الثقة. فإذا كان الخوف يولد الخوف، فإن الثقة تولد الثقة، والمحبة تولد المحبة، ويولد الاحترامُ الاحترامَ. يكمن الحل في نظره في إحلال نمط قيادة جديد محل النمط الدفاعي، وهو نمط يعتمد على المشاركة كأسلوب في التدبيرparticipative leadership. يقوم هذا الأسلوب على أساس القيم الأخلاقية السامية، وهي قيم لا تتعارض مع القيم المهنية. وأما كوهن Cohen ومارشMarch  فإنهما انطلقا من تحليل المنظمات المدرسية، وخلصا إلى أن ما يميز هذا النوع من المنظمات هو الغموض الذي يكتنف بعض عناصرها البنيوية الأساسية كالسلطة والأهداف وبعض الوقائع المرتبطة بها كالخبرة والنجاح، ووصفوها بأنها مجال للفوضى، ولكنها فوضى منظمةorganized anarchy ، يجد المرء نفسه فيها مضطرا إلى استخدام الاستراتيجيات الدفاعية بسبب الغموض وما يترتب عنه من خوف وحذر وفقدان للثقة بين الأطراف المتفاعلة فيها.

كيف يمكن، إذن، تدبير شؤون عالم يسوده الغموض والخوف والحذر؟ إذا كان جب Gibb قدر رأى الحل في إذابة الجليد وتنحية كل ما يبرر اللجوء إلى الأساليب الدفاعية في القيادة، فإن كوهن ومارش يريان أن الحل يكمن في العثور على خطة تكتيكية تمكن رجال الإدارة من التأقلم مع ذلك المحيط ومن الزيادة في قدرتهم على التأثير في مجريات الأحداث وخاصة فيما يتعلق باتخاذ القرارات وتنفيذها؛ وهو، بطبيعة الحال، حل تقني لمشكل اجتماعي معقد. يتمثل هذا الحل في القدرة على ابتكار واستخدام تقنيات الإقناع والتأثير كتلك التي تستعمل في الإشهار وفي الدعاية السياسية والانتخابية لتغيير اتجاهات الناس. ويعترف الباحثان بأن هذا الأسلوب، وإن كان أكثر فعالية من الأسلوب الدفاعي، فإنه ليس أقل غموضا منه. واقترحا خطة ترتكز على ثمان قواعد تكتيكية tactical rules لمساعدة الإداريين على حل المشكلات التي تواجههم؛ سوف نتطرق للحديث عن بعضها لاحقا، وأما ما يمكن ملاحظته الآن فهو أنها ليست غريبة عن روح الفلسفة السياسية لمكيافيل.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الفلاسفة تصدوا بدورهم لمشكل الصراع بين البيروقراطية والمهنة في قطاع التعليم، واقترحوا حلولا جذرية له؛ ولعل من أشهرها، في العالم الأنجلو-سكسوني على الأقل، ذلك الحل الذي اقترحه الفيلسوف الإنجليزي المعاصر لانجفورد Langford والذي صاغه في ضوء الفلسفة الفينومينولوجية. حاول هذا الفيلسوف أن يعالج مسألة الصراع بين البيروقراطية والمهنة بالرجوع إلى جذورها من أجل استنباط الحلول المناسبة لها؛ ولم يكتف، مثلما فعل علماء الاجتماع، بالتساؤل عما إذا كان التعليم مهنة أم لا، بل تساءل عما إذا كان ينبغي أم لا ينبغي اعتبار التعليم مهنة، وتساءل عما إذا كان يجب تنظيم التعليم على أساس المبادئ البيروقراطية أم على أساس مبادئ المهنة. وحاول أن يعرف أيا من هذين التنظيمين أكثر فعالية وأيهما أكثر إثارة للمشاكل؛ وبدأ بتعريف مفهوم المهنة، وحددها بأنها كل نشاط يهدف إلى خدمة الآخرين يحتاج فيه المحترف إلى معرفة علمية وخبرات تقنية، ولا يصبح الفرد عضوا في المهنة إلا إذا اجتاز مباراة للتأكد مما إذا كان يمتلك بالفعل المعارف والمهارات الضرورية. وتجلب المهنة لصاحبها تقدير الجماعة واحترامها ولاسيما حين تكون علاقته بالمستفيد من الخدمات علاقة مباشرة. ولكن أهم عنصر فيها هو المسئولية. ويرى بأن فكرة المهنة تستلزم بالضرورة وجود نوعين من المسئولية، وهما :

     أ ــ مسئولية الشخص الملتزم. إن الشخص الملتزم هو الذي يعمل وفقا لمبدإ الواجب، فهو لا يعمل خوفا من العقوبات ولا طمعا في المكافآت، وإنما يقوم بما يعتقد أنه الواجب. وكما هو واضح، فإن هذا النوع من المسئولية لا يقبل المراقبة الخارجية، وهو يشكل في نظر لانجفورد حافزا قويا إلى العمل، ويزيد من اعتبار الشخص لذاته.

     ب ــ المسئولية عن الأهداف والغايات: إن الشخص الذي يشتغل لحساب شخص آخر مسئول عن تحقيق الأهداف التي وظف من أجلها على الرغم من أنة لم يشارك في وضعها. ولكن الطرف الذي وظفه يكون مسئولا عن تحديد الأهداف وعن تحقيقها. يعتبر هذا المبدأ في نظر لانجفورد بمثابة الأساس الذي تقوم عليه فكرة المهنة. إذ لابد أن يقبل المحترف بحرية وتلقائية أهداف الجماعة قبولا كليا، بحيث يجب أن يعتبرها وكأنها أهدافه الشخصية.

إذا كان الأمر كذلك، فإن على المدرس باعتباره شخصا مسئولا أن يلتزم بأهداف الجماعة وكأنها أهدافه الشخصية. ينبغي أن يكون حافزه الأساسي في العمل هو مبدأ خدمة الآخرين، وأن يعمل كما لو كان رئيسا. ومعنى ذلك أن يعمل وفقا لأهدافه بوصفه مدرسا، لا وفقا لأهداف البيروقراطيين. يرى لانجفورد بأن تنظيم التعليم على أساس مبادئ المهنة سيؤدي إلى تقوية روح المسئولية لدى المدرسين والتزامهم بالأهداف وولائهم للمهنة. وطالما ظل التعليم محكوما بالمبادئ البيروقراطية فإن المسئولية عن الأهداف سوف لن تتحملها إلا فئة قليلة من البيروقراطيين اللذين لا يزاولون التدريس ولا يعتبرون أنفسهم جزءا من النظام الذي يسهرون على تدبير شؤونه.

يؤدي تشبث المدرسين بمبادئ المهنة إلى نشوء الوعي بوحدة الأهداف وإلى تشكل جماعة مهنية ذات هوية متميزة. يتوقف تشكل هذه الجماعة على الوعي المشترك بالانتماء إلى المهنة وعلى مبدإ التماهي identification الذي يعني دمج الشخص نفسه في شخص أو جماعة دمجا ينشأ عنه ارتباط عاطفي وثيق وروح عصبية esprit de corps قوية. تظهر الجماعة المهنية في ميدان التعليم عندما ينظر كل مدرس إلى غيره من المدرسين بنفس النظرة التي ينظر بها كل مدرس إليه، حيث يكون على وعي، ليس فقط بانتماء المدرسين الآخرين إلى المهنة، ولكنه يكون على وعي أيضا بانتمائه إليها، وبوعيهم على أنه على وعي بانتمائه إليها. يسمي لانجفورد العلاقة التي تربط المدرسين بعضهم ببعض في إطار جماعة مهنية ذات هوية متميزة  "علاقة الوعي الذاتي المتبادل"the relation of reciprocal self-awareness، ويسمي الجماعة التي تتشكل بناء على هذه العلاقة " الجماعة الأولية"primary social group . تتحدد الجماعة الأولية في نظره بنظرة الأفراد إلى واقعهم؛ إنها واقع ذاتي. ويشترط أيضا لظهور هذه الجماعة اعتراف المجتمع بالمدرسين كمحترفين، وقبوله لنظرة المدرس إلى نفسه باعتباره فاعلا اجتماعيا قادرا على أن يقدم للمجتمع خدمات أساسية لما لديه من معارف ومهارات، وباعتباره شخصا ملتزما ومسئولا عن تحقيق أهداف نظام التعليم. يستلزم الاعتراف بذلك كله الاعتراف باستقلالية المهنة، ورفع المراقبة الخارجية عنها، وتحمل نفقات التعليم.

غير أنه ليس من السهل تطبيق هذا النموذج؛ إذ كيف يمكن التأكد من أن جميع المدرسين أشخاص مسئولين بالمعنى الأول لمفهوم المسئولية؟ وهل بلغوا جميعهم درجة من النضج يكون فيها الإحساس بالمسئولية الشخصية قويا إلى درجة يمكن معها الاستغناء عن مراقبتهم؟ ثم ما هي درجة إيمانهم بمبدإ خدمة الآخرين؟ وما هو حافزهم الأساسي في العمل ؟ أهو الإيمان بخدمة الآخرين؟  تشير هذه التساؤلات إلى الصعوبات التي تعترض تطبيق النموذج الذي دعا إليه لانجفورد. لنفترض جدلا أن الجواب عنها سيكون بالنفي؛ يتعين علينا في هذه الحالة أن نتساءل عن العوامل التي تحول دون نضج المدرس وتصرفه عن خدمة الآخرين وعن تحمل المسئولية. يمكن تسليط بعض الأضواء على هذه المسألة بالنظر إليها في ضوء نظرية الحاجات ومن خلال ربطها بعملية البلترة الناجمة عن الطريقة البيروقراطية في تنظيم التعليم.

لقد أوضح أرجيرس Argyris بما لا يدع مجالا للشك وجود تنافر بين متطلبات الشخصية فيما يتعلق بنموها ونضجها ومتطلبات المنظمة البيروقراطية فيما يتعلق بتحقيق أهدافها. يكفي لإثبات ذلك أن نتصور وضعية مثلى يجري فيها تطبيق المبادئ البيروقراطية بدقة وصرامة متناهيين، وضعية يتطابق فيها النموذج الأمثل للبيروقراطية كما صاغه ماكس فيبر مع الواقع. كيف ينبغي أن تكون سمات شخصية الفرد الذي يشتغل في مثل هذه الظروف ؟ لابد أن يكون ذلك الفرد بالضرورة إنسانا سلبيا يتلقى تأثير المحيط ويذعن له، تابعا لغيره، فاقدا لاستقلاله الشخصي، عديم القدرة على التحكم في ظروف العمل، ذي أفق ضيق، سجين الحاضر، ميالا إلى اقتصاد الجهد وإلى تجميد إمكانياته ومهاراته، وينتهي به الأمر إلى الانهيار السيكولوجي (1964Argygis, ).

تتعارض هذه السمات مع ما ينبغي أن تكون عليه الشخصية السوية، ولا تنسجم إلا مع حاجات الأطفال، ولا تستجيب، بكل تأكيد، لما يستلزم إشباع حاجات الراشدين وخاصة فيما يتعلق باستقلال الشخصية وتحقيق الذات وإثبات الهوية. حاول أرجيرس أن يبين ذلك انطلاقا من تعريفه لمفهوم الشخصية، ومن تصوره للنموذج الأمثل للشخصية السوية، مستفيدا من نتائج العديد من البحوث والدراسات، وعرف الشخصية بأنها تنظيم محدد لمجموعة من العناصر التي تشكل وحدة متكاملة، يساهم كل عنصر من عناصرها في تدعيم تلك الكلية والمحافظة عليها؛ وتساهم تلك الكلية بدورها في تدعيم وجود كل عنصر وتحافظ عليه وتصونه؛ وتسعى الشخصية إلى تحقيق نوع من التوازن الداخلي أو التوافق  adjustmentوالتوازن الخارجي من أجل ضمان القدرة على التكيفadaptation ؛ وتكون مدفوعة بطاقة سيكولوجية (وعضوية)؛ وتحتل موقعا مناسبا في نظام معين؛ وتفصح عن نفسها من خلال جملة من المهارات والقدرات؛ وتنتظم عناصرها بشكل معين لتشكل ما يسمى بالأنا self الذي يعبر عن خصوصية الفرد، ويضفي على تجاربه سمة مميزة، ويمكنه من العيش في عوالم خاصة. وتتمتع الأنا بقدرة عالية على الدفاع عن النفس  وعلى مواجهة مختلف التحديات الخارجية، وتتميز بميولاتها إلى النمو لتحقيق مزيد من النضج، ومن أهم هذه الميول :

§        الميل إلى الانتقال من حالة السلبية التي يكون عليها الأطفال اللذين يكتفون بتلقي تأثيرات المحيط إلى حالة الكائن الإيجابي الفعال أو الراشد؛

§        الميل إلى الانتقال من حالة التبعية التي يكون عليها الأطفال إلى حالة الاستقلال النسبي التي يكون عليها الراشدون؛

§        الميل إلى الانتقال من وضعية الطفل الذي يسلك بطرق متماثلة إلى حد ما إلى وضعية الراشد الذي يسلك بطرق عديدة ومتنوعة؛

§        الميل إلى الانتقال من وضعية الطفل الذي يتمسك بمصالح تافهة أو شاذة ثم يتخلى عنها بسرعة إلى وضعية الراشد الذي يكون على وعي بمصالحه الأساسية وتعقيداتها ويدركها في كليتها؛

§        الميل إلى الانتقال من وضعية المرؤوس الخاضع لسلطة الأسرة والمجتمع التي يوجد عليها الطفل  إلى وضعية الراشد الذي يطمح إلى أن يلعب دورا أكثر غنى من دور المرؤوس؛

§        الميل إلى الانتقال من وضعية الطفل ذي الأفق الضيق القصير المدى والذي يتحدد سلوكه بمتطلبات الحاضر إلى وضعية الراشد ذي الأفق البعيد المدى الذي يمتد من الماضي إلى المستقبل؛

§        الميل إلى الانتقال من وضعية الطفل الذي لا يملك وعيا بذاته إلى وضعية الراشد الذي حصل له الوعي بذاته واكتسب القدرة على التحكم في الذات. إن تحكم المرء في سلوكه يولد لديه وعيا بشروط سلامة الشخصية واستقامتها integrity حسب تعبير إركسون Erickson، ويبعث في نفسه مشاعر طيبة تجاه الذات وهو ما يسميه روجرز Rogers اعتبار الذات وتقديرها self worth (Argyris, 1964)

وإذا قمنا بمقابلة النموذج الأمثل للشخصية السوية بالنموذج الأمثل للبيروقراطية فسنجد بأن التنظيم البيروقراطي ينسجم مع متطلبات النمو عند الطفل ولا يتلاءم بتاتا مع متطلبات شخصية الراشد. هذه هي النتيجة التي خلص إليها أرجيرس. ويتوقع أن يشتد التنافر بين متطلبات البيروقراطية ومستلزمات الشخصية السوية كلما ازداد نضج الشخص الذي يحتل المواقع الدنيا في هرم المنظمة، أو عندما تتشدد البيروقراطية في تطبيق مبادئها العقلانية، فيزداد ميلها إلى كبح آليات النمو والنضج لدى الفرد، وتبالغ في تعاملها معه كما لو كان طفلا غير مسئول. يؤدي فقدان التوافق بين متطلبات الشخصية السوية ومتطلبات المنظمة إلى حصول اضطراب في الشخصية يتجلى من خلال شعور الفرد بالحرمان، والعجز عن تحقيق الذات، وانهيار طاقاته السيكولوجية بسبب عجزه عن تحقيق التوافق بين أهداف المنظمة وحاجاته الأساسية، ويتجلى أيضا من خلال ضيق الأفق بسبب فقدان السيطرة على المستقبل الذي يظل غامضا بالنسبة للفرد، ثم إن رغبة هذا الأخير في الحفاظ على سلامته في ظروف عصيبة تجعله يعيش تجربة صراع داخلي مستمر. وتنشأ عن ذلك كله سلوكات شاذة تتراوح بين السلبية التامة والعنف الشديد، ويظهر الميل إلى الهروب من واقع العمل وإلى اعتماد الأساليب الدفاعية والإسقاطية لتبرير تلك السلوكات، إلى غير ذلك من التصرفات المرضية. وتضطر البيروقراطية في مواجهتها لهذه السلوكات إلى تقوية أجهزة الضبط والمراقبة، ولا يؤدي ذلك في الواقع إلا إلى الزيادة في تعقيد المشكلات. هكذا يتحول الحل إلى مشكلة؛ ذلك لأن أجهزة المراقبة تصبح أقل فعالية كلما ازدادت قوة  1983 Parkinson ; 1964 , Crozier .

ولكن، لماذا تتعامل البيروقراطية مع الشخص الراشد كما لو كان طفلا؟ يرى إدغار شاين  Schein  بأن سلوك الفرد داخل المنظمة يتحدد بثقافة المنظمة organizational culture، ويرى أن الثقافة التنظيمية من صنع القادة leaders اللذين يتولون تدبير شؤون المنظمة. يدل مفهوم القيادة عنده على القدرة على إنتاج الثقافة وصيانتها وتدمير ما عداها من الثقافات الدخيلة على المنظمة؛ تلك هي الوظيفة الأساسية للقائد والمبرر الحقيقي لوجود القيادة في نظر شاين. إن القيادة والثقافة، في نظره، هما وجهان لعملة واحدة. يدل مفهوم الثقافة عنده على:"...المصادرات الضمنية الأساسية basic assumptions والمعتقدات المشتركة بين أعضاء المنظمة، والتي تفعل فعلها بطريقة لاشعورية، وتحدد نظرة المنظمة إلى محيطها بطريقة تحمل على الاعتقاد بأنها نظرة عادية ومسلم بها"  .(Schein, 1985, p. 6)تنشأ تلك المصادرات أو المسلمات الضمنية الأساسية كنتيجة للاعتقاد في نجاعة بعض الحلول التي أثبتت التجارب المتكررة قدرتها على حل بعض المشكلات التي تعاني منها المنظمة، وخاصة مشكلة التكيف مع المحيط الخارجي ومشكلة الاندماج الداخلي. وبما أن تلك الحلول نجحت في الماضي ولمدة طويلة، تحولت مع مرور الزمن إلى معتقدات، ثم إلى مسلمات وبديهيات، وانتقلت بحكم بداهتها إلى اللاشعور، وأصبحت تشكل المرتكزات العميقة أو الضمنية لفلسفة المنظمة التي تحدد نظرة الناس إلى واقع المنظمة وكيفية تعاملهم مع ذلك الواقع. يتحول الحل الذي أثبت جدارته كحل ناجع لفترة طويلة إلى معتقد مشترك، ويتحول المعتقد إذا استمرت الظروف على حالها إلى "مصادرة ضمنية أساسية". وعندما تتغير الظروف تظل المصادرة الضمنية ثابتة وراسخة بحكم انتقالها مع مرور الزمن إلى اللاشعور، وأصبحت من البديهيات التي لا يتجرأ أحد على وضعها موضع تساؤل.

يعتبر ماكغريغر McGrigor أول من حاول الكشف المصادرات أو المسلمات الضمنية الأساسية التي تقوم عليها البيروقراطية وتحدد نظرتها إلى البشر، وأفصح عنها في نظريته المعروفة باسم نظري X . تقوم البيروقراطية في نظره على التسليم بما يلي :

§        إن معظم الناس كسالى يكرهون العمل؛

§        يفتقر الناس إلى روح المبادرة، ولا يتمتعون إلا بقدرة ضعيفة على الإبداع وعلى حل مشاكل المنظمة، ولا يرغبون في تحمل المسئولية، ويفضلون أن يتولى الغير تدبير شؤونهم وقيادتهم؛

§        إن العوامل الاقتصادية والحاجة إلى الأمن هي الحوافز التي تدفع الإنسان إلى العمل؛

§        يجب إخضاع الناس لمراقبة دقيقة وتتبع أعمالهم وتحسيسهم بما يمكن أن يحرزوا عليه من مكافآت أو يتعرضوا له من عقوبات(Conrad, 1985)

تعكس هذه المصادرات تصور الفلسفة البيروقراطية للطبيعة الإنسانية: فالإنسان بطبعه كسول، بليد، غير مسئول، ميال لإشباع حاجاته الأولية، محتاج إلى من يسوسه. لذلك تتعامل البيروقراطية مع الراشد كما لو كان طفلا غير مسئول. وإذا كانت تعترف من الناحية القانونية بقدرته على تحمل المسئولية، فإنها لا توفر له الشروط التي تساعده على الارتقاء إلى مستوى الشخص المسئول. وإذا افترضنا أن المدرس الذي يشتغل في منظمة بيروقراطية كائن غير مسئول، فلمن ترجع مسئولية تحقيق أهداف التعليم؟ لاشك أنها سترجع منطقيا إلى أولئك اللذين يراقبونه، وهم يشكلون فئة قليلة، ولا يعتبرون أنفسهم جزءا من نظام التعليم، كما يقول لانجفورد. وبالإضافة إلى دلك فإنهم يشكلون فئة متراتبة تتوزع السلطة والمسئوليات بين أفرادها بشكل غير متكافئ، وذلك وفقا لمبدإ التراتب الذي يجعل كل مراقِب مراقَب.

وإذا كانت المستويات العليا تراقب المستويات الدنيا، فإن ذلك يعني أن مسئولية البيروقراطيين الذين يوجدون في ا

Partager cet article
Repost0
27 juin 2008 5 27 /06 /juin /2008 19:44

مهنة التدريس

في مواجهة التنظيم البيروقراطي للتعليم

(الجزء الرابع)

أحمد أغبال

كان ماكس فيبر أحد المفكرين الأوائل الذين تنبهوا إلى هذه المشكلة، حيث بدا له أن "العقلنة تسير في اتجاه نمط عيش لاعقلاني" (أورده (Lowith, 1982. وعلق لويث عن مضمون العبارة التي نسبها إلى ماكس فيبر بقوله: إن المفارقة التي تنطوي عليها، والتي وصفها جورج زيمل بتراجيديا الثقافة، إنما تدل في الحقيقة على أن البيروقراطية، التي وضعت في الأصل لخدمة الإنسان، لا تخدم في الواقع إلا المؤسسات، وهي فكرة نجدها أيضا عند كارل ماركس. تدل هذه الأطروحة على أن للبيروقراطية وجه لا إنساني، لأنها تنقلب ضد الإنسان وتنزع منه إنسانيته، وتزج به في عوالم الغربة والاستلاب. كان ماكس فيبر على وعي بذلك كله، ولكنه لم يندد بالبيروقراطية كما فعل كارل ماركس، ولم يتجرأ حتى على اتخاذ موقف صريح من المشكلة الإنسانية الذي تلازمها، وحاول إضمار موقفه منها، ولذلك تولى لويت Lowith مهمة الإفصاح عن ذلك الموقف وصياغته بشكل واضح؛ وذهب إلى القول بأن ماكس فيبر قد يكون عبر عن موقفه بطريقة غير مباشرة من خلال فقرة اقتبسها في بعض كتاباته من ديوان بودلير Baudelaire  "أوهار الشر" Les fleurs du mal يقول فيها: يمكن لشيء ما أن يكون مقدسا لا لكونه جميل فحسب، ولكن لكونه غير جميل أيضا. دافع ماكس فيبر عن هذه الفكرة بالاستناد إلى آيات الإنجيل وأقوال نسبها إلى نتشه، وانتهى إلى القول بأن شيئا ما يمكن أن يكون حقا حتى وإن كان غير جميل ولا مقدس ولا خير. إنه التعبير في نظره عن الطبيعة اللاعقلانية للأخلاق السائدة في هذا العالم. تنطوي الأخلاق على شيء غير معقول، وهي فكرة لا تتحمل بالنسبة للذين يؤمنون بالقيم الأخلاقية المطلقة. والواقع أنه لو كان الخير يأتي من الخير، وكان الشر ينبع من الشر، لما أثارت السياسة باعتبارها ميلا طبيعيا في الإنسان أية مشكلة.

إن ما يبرر السياسة إذن هي البعد اللاعقلاني لوجود الإنسان. فلولا الطبيعة المتناقضة للواقع الإنساني لما كان الناس في حاجة إلى السياسة. ومعنى ذلك أن الوظيفة الأساسية للأنظمة السياسية تكمن في تدبير الأمور اللاعقلانية، وتلطيفها، وتخفيف عبئها، ليتحملها الناس ويتكيفون معها، ويعيشون مرتاحين في ظلها. إن هدف السياسة هو أن تجعل اللامعقول شيئا مستساغا. وهي تحتاج لتحقيق ذلك إلى الأخلاق. تكمن وظيفة الأخلاق، من وجهة النظر هذه، في دفع الناس إلى قبول ما لا يعقل قبوله، ليعيشوا الحياة كما تأتيهم عفوا من غير ضجر. ولعل ذلك هو ما ألمح إليه ماكس فيبر في حديثه عن "الطبيعة اللاعقلانية للأخلاقEthical irrationality of the world ، وهو ما عبر عنه كوهن Cohen ومارش March  أيضا بقولهما : "بما أن العالم غير معقول فإنه ينبغي على الرئيس أن يتحلى بالفضيلة" (Gohen and March, 1983, p. 205)؛ والمقصود بالفضيلة هنا التظاهر بالتواضع. إن الخطة التكتيكية التي اقترحاها لمساعدة الرؤساء على اتخاذ القرارات وتنفيذها في عالم "الفوضى المنظمة" تلزم كل رئيس أو قائد بالظهور أمام المرؤوسين بمظهر الإنسان المتواضع؛ ذلك ما تدل عليه كل قاعدة من القواعد التكتيكية الثمانية التي تنبني عليها الخطة المقترحة. تقول القاعدة الأولى: إن على القائد أن يتفهم رغبة أعضاء المنظمة في المشاركة في اتخاذ القرارات، ولكن عليه أن يمتص طاقتهم ويسخرها لحسابه؛ وتقول القاعدة الثانية: إن على القائد أن يتشبث برأيه ويصمد عندما يواجهه أعضاء المنظمة بالرفض، وأن يتفهم رفضهم ويقبله، لأن ما يرفض اليوم لن يرفض بالضرورة غدا، وعندما ينجح في فرض القرار الذي كان يرغب في اتخاذه فإن عليه ألا يتباهى بانتصاره، لأن كل انتصار هو في الحقيقة انتصار مؤقت؛ وتقول القاعدة الثالثة بأن عليه أن يبادلهم موقعه مقابل ما هو أساسي وجوهري بالنسبة للمنظمة exchange status for substance، ومعنى ذلك أن يهتم بالنتائج ويمسك في المقابل عن التلذذ بكل ما يمكن أن يترتب عن تحقيقها من مشاعر الارتياح واعتبار الذات، وعما قد يحدثه في النفس تقدير الآخرين وشكرهم واعتبارهم له، عليه أن يترفع عن ذلك كله ليجعل من نجاحه مناسبة لبعث مشاعر الاعتبار الذاتي عند المرؤوسين، وبعبارة أخرى، يجب أن يحقق النصر ويترك للآخرين فرصة الانتشاء بالانتصار. وتهدف القواعد الخمس الأخرى إلى إحداث سلوكات مماثلة لدى الرؤساء، وإلى حمل المرؤوسين على الاعتقاد بأن رؤساءهم طيبون متواضعون.

لا تهدف الخطة المقترحة إلى تغيير الطبيعة البيروقراطية للمنظمة بقدر ما تهدف إلى تغيير نظرة المرؤوسين إليها. تلعب قيمة التواضع في هذه العملية دور البوتقة التي ينصهر فيها الصلب ليتحول إلى سائل مرن دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير طبيعته. إن تصور البيروقراطية للإنسان تصور لامعقول، لأنها تنظر إلى الراشد نظرة الراشد إلى القاصر؛ وبما أن هذا التصور لامعقول، وبما أن من يحمله لا يرغب في تغييره، فإن من الحكمة التعامل معه كما لو كان شيئا معقولا؛ فبدل أن يظهر بمظهر الصخرة الصماء التي ترتطم بها أمواج بحر مضطرب، وجب أن يأخذ شكل سائل يندمج مع الموج ويكبح جموحه بثقله. ومعنى ذلك أن يتكلم الرئيس لغة المرؤوس، ويتكيف مع الصورة التي يحملها عن الواقع ليدفعه إلى القيام بما يرغب فيه دون أن يفقد المرؤوس ماء الوجه. هذا ما يدل عليه مفهوم التواضع في أخلاقيات اللامعقول.

تقضي الحكمة في هذه الأخلاق أن تواجه مفارقة ( أو سخافة ) بمفارقة أخرى ( أو بسخافة أخرى ). فالبيروقراطية تفترض بأن الرجل طفل قاصر، هذه مفارقة أولى، ولكن الفضيلة تفرض عليها التعامل مع القاصر كما لو كان راشدا، هذه مفارقة أخرى. يمكن التعبير عن هذه المفارقات بجملة من خطاب خيالي مفترض وجهه رئيس منظمة إلى مرؤوسيه يقول فيه : أيها السادة.. إنكم في الحقيقة أطفال قاصرون، ولكنكم تعتقدون بأنكم راشدين، لذلك سأتعامل معكم كما لو كنتم راشدين. تذكر هذه الخطة التكتيكية بتقنيات الطب النفسي والتواصل العلاجي التي دأب كل من إركسون (Erickson, 1965) وواتزلفيك(Watzlawick, 1980)  وغيرهما ممن ينتمون إلى مدرسة بالو ألتو .Palo Alto تتمثل تلك التقنيات في استعمال مقاومة المريض، ولغته، وجعله أمام اختيارات وهمية، وتقديم أعراض المرض كوصفة للعلاج، وحل مفارقة بمفارقة أخرى...الخ. استعمل واتزلفيك هذه التقنيات لحل مشكلات التواصل في الأسر المختلة، ودعا إلى استعمالها أيضا لحل مشكلات التواصل في مختلف أنواع المنظمات. ترتكز هذه التقنيات على مبدأين أساسين صاغهما واتزلفيك على النحو التالي :

§    " ليس بوسعنا إلا أن نتواصل"  (Watzlawick, 1972, p. 48)

§    " ليس بوسعنا إلا أن نؤثر. (Watzlawick, 1980, p. 19)

يمكن إرجاع هذين المبدآن إلى  مبدأ واحد ما دام كل تواصل ينطوي في ذاته على فعل التأثير.

اصطدم واتزلفيك عند استعماله لهذه التقنيات بالمفارقة الأخلاقية السابقة الذكر، وعبر عن موقفه منها بقوله : "ليس بوسعنا إلا أن نتحمل المسئولية المحتومة لنقرر، من أجلنا نحن، الطريقة التي يجب إتباعها في اعتبار هذا القانون الأساسي الذي يحكم التواصل الإنساني من أجل التعامل معه بروح إنسانية وبأكبر ما يمكن من الصدق والفعالية" (نفس المرجع السابق، نفس الصفحة)؛ ولكنه ندد في موضع آخر بمن وصفهم "بالمثاليين المملوءة عيونهم بالنجوم المتلألئة" اللذين يرفعون من شأن قيم الإخلاص والصدق ويجعلون منها هدفهم الأسمى. إن قانون التواصل لا يسمح للمرء أن يقول الحق دائما وفي كل الظروف، ولا أن يكون مخلصا على الدوام وفي كل الظروف (Wilder, 1981)؛ وليس يلزم عن ذلك بالضرورة أنه كاذب أو منافق، كما يقضي المنطق الأرسطي الثنائي القيم الذي يلغي الإمكانية الثالثة (الثالث المرفوع). بإمكان المرء أن يقول مثلا: لا أنا بصادق ولا أنا بكاذب، لا أنا بمخلص ولا أنا بمنافق؛ إنه مظهر آخر من مظاهر اللاعقلانية المبثوثة في عالم الأخلاق؛ من شأن موقف كهذا أن يثير البلبلة في أذهان أولئك اللذين اعتادوا التفكير في أمور حياتهم اليومية بعقلية أرسطية ثنائية القيم، وأن يحدث الامتعاض في نفوس أولئك اللذين يؤمنون بالأسطورة القائلة بأن أسمى ما في الإنسان هو العقل (Watzlawick, 1980).

وهكذا، فإذا كان اللامعقول يلزم القائد بالتحلي بفضيلة التواضع، فإنه يفرض عليه أن يضع قيم الصدق والإخلاص بين قوسين، وأن يتعامل بالتالي مع المرؤوسين باعتبارهم قاصرين غير مسئولين دون أن يشعرهم بذلك، وأن يتقن استعمال فن الخطابة للتحكم في مواقفهم واتجاهاتهم. إن فن الخطابة كما عرفه واتزلفيك ملخصا آراء أرسطو في الموضوع، هو شكل من أشكال التواصل الذي يمكِّن كل ذي مقام رفيع وجاه عظيم ممن يتمتعون بثقة مبررة من تغيير آراء وميول الناس اللذين تربطهم به علاقة تواصل ما. ويجب التذكير هنا بأن التواصل يقوم على المبدإ القائل إنه "ليس بوسعنا إلا أن نؤثر". تكمن وظيفة الخطاب في تغيير اتجاهات الآخرين، أو تقريب المواقف، ومن ثمة حل المفارقات الأخلاقية وسوء التفاهم بين الناس.

ترجع جذور هذا الموقف إلى الفلسفة الوضعية المنطقية وإلى نزعتها الوجدانية ممثلة بستفنسن Stivensen  على وجه التحديد. ترى هذه الفلسفة بأن ما يميز الأخلاق هو طبيعتها اللاعقلانية، ما دامت ترتكز على أحكام القيمة. ويرى ستفنسن بأن أحكام القيمة تكتسي دلالة عاطفية-وجدانية، لأن الحكم المعياري يكون دائما مشحونا بطاقة عاطفية-وجدانية، ولذلك كانت أحكام القيمة مصدرا للصراع الأخلاقي وسوء التفاهم بين الناس. غير أن سوء التفاهم لا يعني التناقض، لامتناع القول بأنها صحيحة أو خاطئة، ما دامت لا تؤدي أية وظيفة معرفية. تكمن وظيفتها الأساسية في التعبير عن انفعالات صاحبها وفي خلق رد فعل لدى الطرف الأخر في عملية التواصل، أو التأثير فيه. وبناء على ذلك يميز ستفنسن في أحكام القيمة بين بعدين : بعد يتعلق بالتعبير عن اتجاه معين نحو موضوع الحكم، وبعد يتعلق بالرغبة في التأثير في الغير لتغيير اتجاهه نحو ذلك الموضوع. لذلك، فإن التعبير عن الرأي هو في نفس الوقت مجهود يبذل لتغيير اتجاهات الآخرين. ما من شك في أن هذه الفكرة هي المصدر الذي استمد منه واتزلفيك قاعدته الذهبية القائلة "ليس بوسعنا إلا أن نؤثر". إن الطبيعة المزدوجة للأحكام المعيارية تولد بالضرورة سوء التفاهم بين أطراف عملية التواصل، ولكنها لا تذهب إلى حد التناقض، ولذلك كان من الممكن إيجاد حل لسوء التفاهم ما دام الأمر لا يتعلق بتعارض الآراء والاتجاهات. وأما وسيلة حله في نظر ستفنسن فهي الإقناع persuation الذي يهدف إلى تغيير اتجاه الطرف الآخر. وهكذا، فإن ما قد يبدو على أنه صراع أخلاقي إن هو في الحقيقة إلا صراع الاتجاهات؛ وبما أن الأخلاق لاعقلانية فإن العقل عاجز عن حل ذلك الصراع، لذلك لزم أن يتولى فن الإقناع معالجة هذه المسألة (Watzlawick, 1980 ; Stivenson, 1944).

يمكن القول، بناء على ما سبق، إن الصراع القائم بين البيروقراطية والمهنة في ميدان التعليم هو صراع أخلاقي، صراع بين تصورين متعارضين لما ينبغي أن يكون عليه واقع التعليم بأبعاده الهيكلية والتنظيمية والبشرية. يتجلى هذا الصراع في التعارض الموجود بين اتجاهات المدرسين واتجاهات رؤسائهم نحو الوقائع والظواهر التعليمية، ولا يمكن حسمه إلا بطريقتين: طريقة يمكن وصفها بأنها محافظة، لأنها تسعى إلى الحفاظ على الواقع الموضوعي كما هو وتغيير صورته في أذهان المدرسين من خلال تغيير اتجاهاتهم نحوه بالاعتماد على تقنيات الإقناع والتأثير، وهي الطريقة التي يدعو إليها ستفنسن وواتزلفيك، والتي حدد كوهن ومارش خطتها التكتيكية؛ وطريقة يمكن وصفها بأنها جذرية، وهي الطريقة التي تهدف إلى تغيير المسلمات الضمنية التي تقوم عليها البيروقراطية وتصورها للإنسان، و التي دعا إليها لانجفورد وماكغريغر في نظريته المعروفة بنظريةtheory (Y) .

إن نظرية (X) ما هي في الحقيقة إلا وصف وتحليل نقدي للبيروقراطية يراد منه الإفصاح عن مصادراتها الضمنية المسئولة عن الاختلالات الوظيفية في المنظمات، وعن الاضطرابات النفسية-الاجتماعية التي يعاني منها العاملون فيها. إن تصورها السلبي للإنسان يستلزم من الناحية المنطقية تنظيم المنظمة وفقا لمبدإ التراتب scalar principle الذي يفرض أسلوبا في الإدارة يعتمد على استعمال السلطة. وسيؤدي تغيير التصور السلبي للإنسان، في نظر ماكغريغر، إلى تغيير ذلك المبدإ المنظم، ومن ثمة تغيير الأسلوب السلطوي في الإدارة. هذا ما تطالب به نظرية(Y) ، فهي تدعو إلى اتخاذ موقف إيجابي من الإنسان، وسيؤدي الموقف الإيجابي الجديد إلى اعتماد مبدإ جديد في التنظيم، وهو مبدأ الاندماج the principal of integration الذي يستلزم الاعتراف بحاجات كل من المنظمة والفرد على حد سواء وإشباعهما معا. يؤدي مبدأ الاندماج في نظر ماكغريغر إلى تقوية ولاء الفرد للمنظمة، واستثمار الطاقات البشرية، وتقوية روح المسئولية لدى الفرد وقدرته على المراقبة الذاتية، وتجنب الصراع، وهو ما لا يمكن تحقيقه في إطار العمل بنظرية(McGrigor, 1983) (X) .

إن النظرة السلبية للإنسان تؤدي إلى عدم الاعتراف بقدرته على تحمل المسئولية. وربما كان ضعف روح المسئولية في المنظمات البيروقراطية هو الخلل الرئيسي الكامن خلف المشاكل التي تعاني منها. وبما أن البيروقراطية قد عجزت عن بعث روح المسئولية في موظفيها، فإنه يتعين إعادة تنظيم المنظمات، وخاصة المنظمات التعليمية، على أساس مبادئ وقواعد أخرى. هذا ما دعا إليه لانجفورد. ينبغي من أجل بعث روح المسئولية في المدرسين إعادة تنظيم التعليم وفقا لمبادئ المهنة. إن هذا النوع من التنظيم هو وحده الكفيل بجعل المدرس المسئول الأول والأخير عن أهداف التعليم. يقتضي مبدأ المسئولية عن الأهداف مطالبة المدرسين برفع تقارير مفصلة عن الأنشطة المنجزة خلال فترة محددة لمعرفة مدى أدائهم لواجباتهم، ولإتاحة الفرصة للنقد والتقويم. ويقتضي مفهوم المسئولية الثقة في تقاريرهم. ذلك لأن قيمة الثقة ملازمة لفكرة المسئولية، إذ من العبث أن نعترف بمسئولية شخص لا نثق به؛ هذا على الرغم مما قد يترتب عن الثقة من مخاطر، يجب قبول هذه المخاطر والعمل على التقليل منها (Lanfford, 1985).

وما يمكن أن يؤخذ على لانجفورد وماكغريغر هو أنهما اقترحا الحلول دون أن يقدما خطة عملية تترجمها إلى واقع، وذلك على خلاف ما فعل كوهن ومارش اللذين بلورا خطة تكتيكية لحل مشكلات البيروقراطية، ولو كان من الصعب تطبيقها، على اعتبار أن الشرط الأساسي فيها هو أن يتقن كل رئيس في كل مستوى من المستويات التنظيمية فن الخطابة وتقنيات الإقناع والتأثير، وهو ما يتطلب تكوينا معمقا وتجربة طويلة إلى جانب وجود قابلية للتأثر لدى المرؤوسين. وأما فيما يتعلق بلانجفورد وماكغريغر فإن أفكارهما توحي بطريقتين على الأقل: طريقة ترتكز على تعبئة المدرسين للدفاع عن مطالبهم المهنية؛ غير أن من شأن هذه الطريقة أن تولد ردود فعل قوية لدى البيروقراطية، مما يزيد الطين بلة، ويزيد من تأجيج الصراع وتفاقم المشاكل السابقة، ويكون المدرس هو الضحية الأولى؛ وهذا ما أكدته التجارب الماضية (Banks, 1978 ; Grace, 1983). هذا بالإضافة إلى وجود عراقيل موضوعية تحول دون تنامي النزعة المهنية في ميدان التعليم(Parry & Parry, 1981 ; Bargess, 1986)

ويرى بعض الباحثين أن الصراع بين البيروقراطية قد يضعف ويخمد في ظل شروط معينة، حيث يظهر الميل إلى التكامل والانسجام والتوازن بينهما(Johnson, 1972)) ؛ غير أن هذه الشروط ناذرا ما تتوفر مجتمعة (Dingwall & Lewis, 1985). وهناك من يذهب إلى الاعتقاد بأن حل الصراع بين البيروقراطية والنزعة المهنية رهين بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تجري خارج المنظمة. ومهما يكن من أمر ذلك، فإن استمرار الصراع سيظل العائق الأساسي لاندماج المنظمة التعليمية والسبب الرئيسي في التمزق الداخلي للعاملين فيها.

 

Partager cet article
Repost0
11 mai 2008 7 11 /05 /mai /2008 21:40

الليبرالية السياسية ومسألة العدالة
لدى جون راولز

أحمد أغبال

 

الجزء الأول: مبادئ الليبرالية السياسية

خصائص الليبرالية السياسية لدى راولز

         تنبني على المصادرات الضمنية الأساسية (= المعتقدات التي تبدو للناس بديهية ولا يضعونها موضع تساؤل) التي تقوم عليها الثقافة السياسية في المجتمعات الغربية وخاصة. المجتمع الأمريكي. يقول:“لا تنطلق من الحقائق الأخلاقية العامة، بل من معطيات ثقافتنا المشتركة...طالما أنها تتوفر على ميزات حسنة وقابلة للتحسن باستمرار"

         تعليق الشرط  الإبستملوجي: لا تدعي امتلاك الحقيقة في تصورها للعدالة، ولا تحتكم إلى أية نظرية فلسفية أو أي معيار من معايير الحقيقة، وإنما تترك أمر ذلك "للمواطنين... الذين يتعين عليهم أن يقرروا كل على انفراد كيفية ارتباط القيم السياسية بقيم مذاهبهم العامة”[1]

ماذا يعني تعليق الشرط الإبسنملوجي؟
وما هي تلك المصادرات الضمنية الأساسية ؟


المصادرات الضمنية

v      الاعتقاد بأن المواطنين 

             أحرار متساوون

v      الإيمان بفكرة التسامح الديني

v      الإيمان بالتعددية العقائدية 

             والمذهبية

جعل راولز من هذه العناصر الثقافية المسلمات التي

أسس عليها نظريته. يقول:


المقصود بتعليق الشرط الإبستملوجي

تحرير القيم السياسية من التبعية للمذاهب والتيارات الفلسفية

لأن التبعية المذهبية تعني القضاء على التعددية التي هي جوهر الليبرالية السياسية

لذلك وجب استبدال مفهوم ”الحقيقة“

بمفهوم ”الثقة المعقولة“

 

سنبدأ، إذن، بإلقاء نظرة على الثقافة العمومية نفسها باعتبارها المخزون المشترك الذي يتضمن الأفكار والمبادئ الأساسية المعترف بها ضمنيا. ونأمل في صياغة هذه الأفكار والمبادئ بشكل واضح بحيث يمكن التأليف بينها في إطار تصور سياسي للعدالة يتناسب مع معتقداتنا الأكثر رسوخا[2]

باختصار:

v     الاعتراف الضمني بمبادئ الثقافة السياسية المشتركة هو ما يجعل الليبرالية السياسية ممكنة

v     إن الإيمان المشترك بالمصادرات الضمنية الأساسية التي تقوم عليها الثقافة السياسية المشتركة يستلزم:

1. تعليق الشرط الإبستملوجي

2. استبدال مفهوم ”الحقيقة“ بمفهوم ”الثقة المعقولة“ الذي أصبح يحتل مكانة مركزية في المقاربة السياسية لراولز  

لماذا استبدل راولز مفهوم الحقيقة بمفهوم الثقة المعقولة ؟

فعل ذلك للاعتبارات التالية:

q     تقدم نظرية العدالة كإنصاف نفسها بوصفها التعبير الصحيح والمناسب عن قيم الثقافة السياسية المشتركة.

q     يمكن لكل مذهب من المذاهب الشمولية المعقولة أن يجد لنفسه سندا أو مبررا في الثقافة  المشتركة.

q     إن مفهوم "الحقيقة" لا يتناسب مع مبدإ التعددية، ولا يصلح كمعيار للحكم على المواقف الأخلاقية والسياسية.

q     تقع مبادئ العدالة خارج دائرة اهتمام العقل النظري، ولذلك لا تحتاج في قبولها إلى برهان، فهي تستمد قيمتها من ذاتها باعتبارها جزءا من العقل العملي الذي تكمن وظيفته الأساسية في تحديد ما ينبغي أن يكون.

بعبارة أخرى، إن ما يبرر هذا التوجه هو:

q     الاعتقاد بأن مفهوم "الثقة المعقولة" يؤدي في مجال الأخلاق والسياسة الوظيفة التي يؤديها مفهوم الحقيقة في المجال المعرفي

q     الاعتقاد بـأن مفهوم ”الثقة المعقولة“ يؤدي الوظائف التالية:

§         التقريب بين المذاهب المعقولة المتنافسة

§         إتاحة الفرصة لقيام  إجماع بالتقاطع بين المذاهب

§         ومن ثمة إمكانية تنظيم المجتمع بشكل جيد.  

 وما هي الدلالة السياسية لمفهوم ”الثقة المعقولة“ ؟

v     يدل على الإيمان بإمكانية قيام الليبرالية السياسية التي تضمن إمكانية قيام نظام دستوري عادل.

v      وبمثل الشرط الضروري لقيام الإجماع بالتقاطع بين المذاهب المتنافسة في المجتمعات التي يحكمها مبدأ التعددية المعقولة0

v      ويدل على المستوى العملي على الرغبة في التوفيق بين المذاهب التي يدعي كل واحد منها امتلاك نوع من الحقيقة من أجل بنـاء "المجتمع المنظم بشكل جيد"  well-ordered

ما هو ”المجتمع المنظم بشكل جيد“ ؟

q     هو مجتمع نظمت بنيته الأساسية وفقا  للتصور العمومي للعدالة.

q      إنه نظام تعاون منصف، تخضع مؤسساته الأساسية لقواعد يعترف بها جميع المواطنين ويمتثلون لها.

ما هي شروط وجوده ؟

v     أن يقبل كل فرد مبادئ العدالة، وأن يكون على علم بأن الآخرين يقبلونها مثلما يقبلها هو؛

v     أن يتم تنظيم المؤسسات الأساسية وفقا لمبادئ العدالة، وأن يكون هناك ما يبرر بشكل معقول اعتقاد المواطنين بأن المؤسسات تشتغل وفقا لتلك المبادئ؛

v     أن ينظر الأفراد إلى أنفسهم على أنهم متساوون في الحرية ولهم نفس الشخصية الأخلاقية التي تبعث فيهم الإحساس بالعدالة وببعدها العمومي؛

v     أن يكون للأفراد تصور للخير، وأن يجعلوا منه هدفهم الأساسي الذي يتيح لهم إمكانية المطالبة بحقوقهم المشروعة في إطار مؤسساتهم

v     أن يكون لهم الحق، وأن ينظروا إلى أنفسهم على أنهم أصحاب حق في نيل نصيبهم من الاحترام والتقدير بتمكينهم من المساهمة في تحديد المبادئ التي تنظم البنية الأساسية للمجتمع.

v     أن تشتغل المؤسسات الأساسية بطريقة تولد الإحساس بالعدالة في نفوس المواطنين من أجل ضمان الاستقرار الدائم للمجتمع.

وخلاصة القول

إن الاعتراف الضمني بمبادئ الثقافة السياسية المشتركة هو ما يجعل من المذاهب المتنافسة مذاهب معقولة ويساعد على انتشار مشاعر الثقة في المؤسسات الأساسية ويلزم كل فرد بالتحفظ في ادعاء الحقيقة

ويترتب عن ذلك:

 1. إمكانية قيام الليبرالية السياسية.

 2. إمكانية حصول إجماع بالتقاطع.

وما هي أهداف الليبرالية السياسية ؟

v     تحقيق الإجماع بالتقاطع overlapping consensus  بين المذاهب المعقولة حول مبادئ العدالة التي ستنظم البنية الأساسية للمجتمع.

v      ومن ثمة بناء المجتمع بوصفه نظام تعاون منصف عبر تعاقب الأجيال.

v     نشر مشاعر الثقة في المجتمع من أجل ضمان استقراره الدائم، وذلك  من خلال تفعيل آليات التوازن المتعقل reflective equilibrium وخلق الشروط التي تساعد على تنامي الحس الخلقي وروح المواطنة لدى أفراد المجتمع.

باختصار:

إن المجتمع المنظم بشكل جيد هو مجتمع منظم وفقا لمبادئ العدالة، يوفر إمكانية التعاون المنصف بين المواطنين الذين تتوفر فيهم الصفات التالية :

v      العقلانية والمعقولية

v      يعتبر بعضهم بعضا أحرارا متساوين

v      لهم تصور مشترك للعدالة، ويعترفون بمبادئها

v      يعلم كل فرد أن الآخرين يعترفون مثله بتلك المبادئ

 كيف يمكن بناء هذه المدينة الفاضلة ؟

إنها قبل كل شيء بناء عقلي. وأما طريقة بنائها فتسمى: “البنائية السياسية“، وهي أيضا منهجية للتعاقد

المبادئ والمصادرات التي تقوم عليها المقاربة البنائية السياسية لدى جون راولز

         إن مبادئ الأخلاق والعدالة ليس لها وجود قائم بذاته في استقلال عن ملكاتنا الذاتية

         إن القول بوجود نظم أخلاقية قائمة بذاتها يتنافى مع مبادئ الاستقلال الذاتي وحرية الإرادة والاختيار

         إن مبادئ الأخلاق والعدالة هي قبل كل شيء نتاج الاختيارات العقلانية المعقولة والقرارات التي يتخذها أشخاص يتمتعون بحرية الإرادة والاستقلال

 باختصار، تنطلق عملية البناء/التعاقد من:


بعض المعطيات المرتبطة بالثقافة السياسية في المجتمعات الغربية:

1. الاعتقاد بأن جميع المواطنين أحرار متساوون

2. التعددية العقائدية والمذهبية

 


بعض المصادرات والفرضيات التي تبلورت في ضوء العقل العملي:

1. مبادئ الأخلاق والعدالة ليست معطاة بل تشيد

2. الشخص الأخلاقي العقلاني والمعقول وحده مؤهل لأن يكون مواطنا

3. فرضية الوضعية الأصلية

تجمع المقاربة البنائية السياسية بين المعطى الأمبريقي ومقولات العقل العملي، إنها نتاج "الوحدة القائمة بين العقل العملي والتصور الملائم للمجتمع والشخص وللدور الذي تلعبه مبادئ العدالة في الفضاء العمومي“[3]             

وتنطلق المقاربة البنائية السياسية في محاولتها لتأسيس المدينة الفاضلة على المستوى التجريبي النظري من فرضية الوضعية الأصلية أو الوضعية المثلى للتعاقد original position

هدف التعاقد الأمثل

اختيار مبادئ العدالة لتنظيم المجتمع بشكل جيد أي تنظيمه بشكل يجعل منه نظام تعاون منصف ويضمن له الاستقرار.

 


[1] John Rawls (1993). Political liberalism, p. 140.

[2] John Rawls (1993). Political liberalism; p. 8.

[3] John Rawls(1993). Political liberalism, 107.

[4] John Rawls (1971). Theory of justice, p. 102

[5] John Rawls (1971). Theory of justice, p. 11

[6] John Rawls(1993). Political liberalism

Partager cet article
Repost0
10 mai 2008 6 10 /05 /mai /2008 21:52

الليبرالية السياسية ومسألة العدالة بدى جون راولز
أحمد أغبال

ما هي شروط التعاقد الأمثل ؟

  1. أن يجري في وضعية منصفة (= وضعية مساواة تتوزع فيها المواقع وفقا لمبدإ التماثلية reciprocity
  2. أن يجري بين أشخاص تتوفر فيهم شروط المواطنة
  3. أن يتم تحييد نتائج التوزيع الطبيعي للإمكانيات والقدرات

لماذا يجب تحييد الفوارق الطبيعية ؟

وما هي مقومات الشخص ؟ مقومات المواطنة ؟

يجب التحكم في الفوارق الطبيعية خلال عملية التعاقد لأنه:

"لا يمكن القول عن التوزيع الطبيعي [للقدرات والمواهب] بأنه عادل أو غير عادل، كما أنه لا يمكن القول إنه ليس من العدالة في شيء أن يولد الناس داخل المجتمع في موقع متميز. هذه وقائع طبيعية فحسب. وأما ما يعتبر عادلا أو غير عادل، فهو طريقة تعامل المؤسسات مع هذه الوقائع [...] ليس هناك ضرورة تدعو الناس للاستسلام لهذه الوقائع العارضة. إن النظام الاجتماعي ليس خارجا عن سيطرة الإنسان أو أنه غير قابل للتغيير أو التعديل، ولكنه نظام ناشئ عن النشاط الإنساني"[1]

كيف يمكن التحكم في عوارض الزمن خلال عملية التعاقد في الوضعية الأصلية ؟

جواب راولز: من خلال إسدال ستار من الجهل عليها veil of ignorance
وما تعريفه ؟ يقول راولز 
:

”... ومن أهم خصائص هذه الوضعية أن أحدا لا يعرف مكانته في المجتمع أو موقعه الطبقي ووضعيته الاجتماعية، ولا يعرف أي أحد نصيبه من التوزيع الطبيعي للقدرات والمهارات كمستوى ذكائه وقوته وما شابه ذلك؛ بل إنني سأذهب إلى حد التسليم بأن أي طرف من الأطراف المعنية لا يعرف تصوره للخير ولا نوازعه النفسية؛ وبذلك يتم اختيار مبادئ العدالة خلف ستار من الجهل. هذا ما يضمن التكافؤ بين الأفراد، بحيث لا يكون هناك من هو في وضعية مواتية أو من هو في وضعية غير مواتية لاختيار المبادئ بناء على حصيلة الحظ الطبيعي أو العوارض الاجتماعية. وبما أن الجميع يوجدون في وضعية لا تسمح لأي أحد أن يضع المبادئ التي تخدم وضعيته الخاصة، فإن مبادئ العدالة ستأتي نتيجة تعاقد منصف[2]

وما الذي يجعل المتعاقدين يقبلون الوقوف خلف ستار الجهل؟

جواب:

المتعاقد شخص أخلاقي

ولا يقبل التعاقد إلا الشخص الأخلاقي

وما هي مواصفات الشخص الأخلاقي ؟

إنه الشخص الذي يتوفر على ملكتين أخلاقيتين وهما:

  1. 1. القدرة على تشكيل تصور للخير والسعي إلى تحقيقه
  2. 2. القدرة على الإحساس بالعدالة وفهم مبادئها وتطبيقه.  
  3. ويعتبر المواطنون متساوين عندما يبلغ مستوى نمو القدرات الأخلاقية الحد الأدنى الذي يؤهلهم للتعاون: يجعلهم قادرين على تفعيلها

تدل الملكة الأولى على أن الشخص الأخلاقي عقلاني

وتدل الملكة الثانية على أنه معقول

ياختصار:

يشترط في المواطن بوصفه شخصا أخلاقيا أن يتوفر على ملكتين، تمثل إحداهما الجانب العقلاني من شخصيته وتمثل الأخرى الجانب المعقول من شخصيته

وما الفرق بين العقلاني والمعقول؟

العقلاني

”إن ما يوجه السلوك العقلاني ..هي تلك المبادئ المألوفة التي توجهنا مثلا نحو اختيار الوسائل التي تمكننا من تحقيق الأهداف بأكبر ما يمكن من الفعالية والنجاح"

المعقول

"إن ما يفتقر إليه الفاعلون العقلانيون هو .. الحس الأخلاقي الذي يشكل أساس الرغبة في الانخراط في التعاون المنصف .. ولست أدعي أن المعقول يستغرق الحس الخلقي كله؛ لكنه يتضمن الجزء المرتبط بفكرة التعاون الاجتماعي المنصف"

باختصار:

الفرق بين العقلاني والمعقول هو أن العقلاني لا يراعي دائما الاعتبارات الأخلاقية أو المصالح المشتركة: فقد يكون المرء عقلانيا في اختياراته إلى أبعد الحدود، ولكن اختياراته قد تكون غير معقولة من الناحية الأخلاقية

وما هي مواصفات الشخص المعقول ؟

q     أن يكون مؤهلا لاقتراح شروط تعاون   منصف يكون من المعقول الاعتقاد بأن الآخرين سيقبلونها

q     الالتزام ببنود اتفاقيات التعاون، ولكن شريطة ان يلتزم بها الآخرون أيضا

q     الاعتراف بصعوبة إصدار الأحكام وقبول ما يترتب عن هذه الصعوبة من نتائج. وهنا يكمن جوهر المعقول

يقول راولز:

”يرجع الأصل في التمييز بين المعقول والعقلاني إلى كانط، ويتجلى ذلك من خلال تمييزه بين الأمر المطلق والأمر الافتراضي.. يمثل الأمر الأول العقل العملي الخالص، ويمثل الثاني العقل العملي الأمبريقي. وفي إطار النظرية السياسية للعدالة حصرت دلالة المعقول في معنى ضيق، وجعلته دالا في المقام الأول على الاستعداد للاعتراف بصعوبة إصدار الأحكام وقبول النتائج المترتبة عنه“[3]

ما الذي يجعل إصدار الأحكام صعبا؟

هناك نوعان من العوامل:

1.   عوامل تتسبب في خلاف غير معقول

2.   عوامل تتسبب في خلاف معقول

1. أسباب الخلاف غير المعقول

q     يدافع الناس عن الآراء التي تؤيد مصالحهم الضيقة أو الأنانية. ولما كانت المصالح متضاربة، فإن الآراء ستكون متعارضة.

q      جميع الناس ليسوا أذكياء بما فيه الكفاية، ومع ارتكابهم للأخطاء المنطقية وقصر النظر والتعصب الأعمى والمستبقات تتعارض الآراء ويحتد الصراع بينها.

2. أسباب الخلاف المعقول: صعوبات الحكم

q     صعوبات مرتبطة بالاستعمال الصحيح (البريء) لملكات الاستدلال والاستنتاج والحكم في المجال السياسي. فباعتبارنا أشخاصا عقلانيين، نسعى إلى تحقيق أهداف متنوعة، ونضطر إلى تقدير قيمتها وترتيبها حسب الأولوية، وهنا تواجهنا صعوبة إصدار أحكام عقلانية صحيحة.

q     وباعتبارنا أشخاصا معقولين نضطر إلى تقدير مدى قوة ووجاهة مطالب الآخرين ليس فقط بالنظر إلى مطالبنا الخاصة، ولكن بالنظر إلى مطالب كل طرف بالقياس إلى مطالب الطرف الآخر. وهنا تواجهنا صعوبة الوصول إلى أحكام معقولة وسليمة.

ومن أسباب عدم الاتفاق المعقول أيضا:

q     كثيرا ما يكون الدليل الأمبريقي العلمي معقدا ومتناقضا، ولذلك يكون من الصعب تقييمه.

q     قد نتفق حول بعض الأمور، ونختلف حول تقدير أهميتها النسبية، فنصدر أحكاما مختلفة.

q     إن مفاهيمنا السياسية والأخلاقية كثيرا ما تكون عامة وفضفاضة وقابلة لتأويلات مختلفة.

q     إن طريقتنا في تقييم الأدلة وتقدير مدى أهمية القيم السياسية والأخلاقية تتأثر بتجاربنا في الحياة وانتماءاتنا الطبقية والدينية..مما يؤدي إلى اختلاف أحكامنا.

q     توظف في المناقشات والمناظرات العمومية قواعد معيارية تتفاوت في درجة قوتها، ولذلك يكون من الصعب إعطاء تقييم عام متفق عليه من طرف الجميع

q     لكل نظام مؤسساتي قيمه الأخلاقية والسياسية، وبما أن لكل نظام فضاء اجتماعي محدود، فإنه يضطر لأن يرسم للقيم التي اختارها حدودا بالنظر إلى قيم أخرى. ومما يترتب عن ذلك صعوبة تحديد الأولويات، وصعوبة اتخاذ القرار.

استنتاج

v     إنه من الممكن بلورة تصورات مختلفة للعالم انطلاقا من زوايا نظر مختلفة وبطريقة معقولة. ومعنى ذلك أن تعدد المذاهب ناتج عن تعدد المنظورات

v     إنه من الخطأ الاعتقاد أن كل الاختلافات الموجودة بيننا سببها الجهل او الفساد أو التنافس عن مصادر الثروة والسلطة والنفوذ. إن الاعتقاد بذلك سيؤدي إلى انتشار مشاعر الحذر والعدوان في المجتمع.

v     إن الاعتراف بصعوبات الحكم يستلزم قبول ما يترتب عنها.

ومما يترتب عن صعوبة الحكم

  1. أن لا يعتنق جميع الأشخاص المعقولين نفس المذهب.
  2. نبذ المذاهب غير المعقولة
  3. الدفاع عن المذاهب المعقولة بطرق معقولة
  4. الدفاع عن المذهب المعقول بطرق غير معقولة لا يحوله إلى مذهب غير معقول

باختصار:

مما يترتب عن صعوبة إصدار الأحكام
1. قبول التعددية العقائدية والمذهبية
2. التسامح
إنها مواصفات الشخص الأخلاقي أو المواطن المؤهل للتعاقد

مواصفات المتعاقدين في الوضعية الأصلية

v     العقلانية: القدرة على اختيار الوسائل الفعالة لتحقيق الأهداف والمصالح الشخصية.

v     المعقولبة: القدرة على اقتراح مبادئ التعاون المنصفة وقبول مبادئ التعاون المنصفة التي يقترحها الغير.

v     ستار الجهل: لا أحد يعرف ما هو نوع التنظيم الذي يخدم مصلحته على حساب مصالح الآخرين.

v     الحذر: لا أحد يقبل المجازفة والمخاطرة بمستقبله.

ولرسم معالم الوضعية الأصلية انطلق راولز من المصادرات الحدسية التالية:

v     اللامساواة غير مقبولة أخلاقيا، ولا يجوز السماح بها ما لم يكن هناك مبرر معقول

v      لا يجوز لأحد أن يأخذ أكثر مما ينبغي فقط لأنه يحتل موقعا من المواقع التي تحكمت في توزيعها عوارض  الزمن

v     لا يمكن القضاء على التعددية العقائدية إلا باستعمال سلطة الدولة، وهو ما يعني القضاء على الحريات المدنية.

باختصار:

يسعى كل فرد إلى تحقيق مصلحته الشخصية، ولكن ستار الجهل يحرم الجميع من اتخاذ القرار الذي يضمن لبعضهم التفوق على غيرهم.. وباعتبارهم أشخاصا عقلانيين يوجدون في وضعية عدم اليقين، ما هي مبادئ العدالة التي يكون من المعقول أن يختاروها جميعا دون استثناء ؟ إذا كنت في وضعية عدم اليقين، فكيف يمكنك أن تتصرف بوصفك شخصا عقلانيا ؟ ما هي مبادئ العدالة التي ستختارها ؟ أمامك لائحة تتضمن مبادئ العدالة التي تتحكم في عملية توزيع الخيرات الأولية (الحقوق، الحريات، السلطة، المناصب، الدخل، الثروة)  

عينة من مبادئ العدالة التي يجب الاختيار بينها تحت إكراهات الوضعية الأصلية
1. مبدأ المنفعة: يعني تحقيق أكبر قدر من الرفاهية لأكبر عدد من المواطنين
2. مبدأ الماكسمين
maximin principle: رفع الحد الأدنى إلى حده الأقصى، أي رفع مستوى رفاهية فئات المجتمع الدنيا  

    إلى أقصى حد ممكن. ومعناه أيضا لا يمكن قبول اللامساواة إلا إذا كانت تزيد من رفاهية الفئات الدنيا

بعبارة أخرى

هل تفضل ؟:

q      نظاما اجتماعيا يزداد فيه معدل الرفاهية ارتفاعا

q     نظاما اجتماعيا ترتفع فيه حصة الفئات الدنيا من الخيرات الأولية إلى أقصى حد ممكن

ما هو الاختيار العقلاني؟

في وضعية عدم اليقين يكون اختيار مبدإ الماكسمين هو الاختيار العقلاني. ما الدليل على ذلك ؟

القضية الأولى: يقضي الواجب بعدم إلحاق الأذى بالآخرين.

القضية الثانية: عندما نضطر إلى الاختيار بين بديلين يلحق كل واحد منهما نوعا من الأذى بالآخرين، فيجب

                    اختيار أهون الضررين.

القضية الثالثة: عندما نريد الاختيار بين أنواع النظم الاجتماعية فإننا نكون بصدد الاختيار بين بدائل يلحق كل

                    واحد منها نوعا من الأذى ببعض الفئات.

القضية الرابعة: اختيار النظام الاجتماعي الذي توزع فيه الخيرات الأولية وفقا لمبدإ الماكسمين يعني اختيار البديل

                    الذي يلحق الحد الأدنى من الأذى بالفئات الدنيا

o       إن كنت عقلانيا فحسب، فستختار مبدأ المنفعة؛

o       وإن كنت عقلانيا ومعقولا في نفس الوقت فستختار مبدأ الماكسمين.

استنتاج

من مزايا البعد المعقول في الشخصية أنه:

         يساعدنا على اتخاذ القرارات في وضعية عدم اليقين وفي الوضعيات المحفوفة بالمخاطر؛

         يؤهلنا للتعاقد مع الآخرين؛

         يؤهلنا للتعامل مع المفارقات الأخلاقية وغيرها.

والنتيجة هي أن المواطن شخص أخلاقي



معقول:

  لأنه يتوفر على ملكة الإحساس بالعدالة



وعقلاني:

  لأنه يمتلك القدرة على تشكيل تصور للخير

يمثل الشخص المعقول والعقلاني النموذج السياسي الأمثل للمواطنة الديمقراطية. والسؤال الآن هو:
كيف تتشكل وتنمو روح المواطنة ؟ هل يمكن تنميتها بواسطة التربية والتعليم ؟



[1] John Rawls (1971). Theory of justice, p. 102

Partager cet article
Repost0
9 mai 2008 5 09 /05 /mai /2008 22:11

الليبرالية السياسية ومسألة العدالة لدى جون راولز

أحمد أغبال

الجزء الثاني: مراحل النمو الأخلاقي لدى راولز

وهي مراحل تشكل الإحساس بالعدالة والمشاعر الأخلاقية الموازية لكل مرحلة من المراحل النمائية الثلاث:

1.      أخلاق السلطة

2.      أخلاق التشارك

3.      أخلاق المبادئ

1. أخلاق السلطة

1.                             وهي أخلاق مرحلة الطفولة.

تتشكل بفعل القانون السيكولوجي الأول داخل الأسرة التي تعتبر جزءا من البنية الأساسية للمجتمع

القانون السيكولوجي الأول:

لفهم هذا القانون يجب التعرف أولا على نوازع الطفل وميوله الفطرية

v     الميل الفطري إلى تحقيق ”مصلحته الذاتية العقلانية“ rational self-interest (تحقيق الرغبات الذاتية)؛

v     لا يميل إلى حب الوالدين بالفطرة؛

v     يفتقر إلى القدرة على التسويغ: لا يدرك أهمية الأوامر والنواهي، ولا يرى ما يبرر الخضوع لسلطة الوالدين، ولا يستطيع الشك فيها وانتقادها استنادا إلى مبرر مقبول.

استنتاج:

لا يوجد لدى الطفل أي ميل فطري للامتثال للسلطة. كيف يمكن ”ترويضه“ إذن ؟

القانون الأول: المحبة تولد المحبة

محبة الوالدين لطفلهما تولد محبة الطفل لهما كرد فعل. تتجلى محبتهما له من خلال النوايا الواضحة للعناية به؛ وتتجلى له النوايا بوضوح من خلال:

  • مساعدته على تلبية ”مصالحة الذاتية العقلانية“
  • دعم شعوره بالاعتبار الذاتي وتأكيد تصوره لذاته
  • دعم رغبته في الاستقلال وفي تحمل المسئولية

والنتيجة: تشكل مشاعر وعاطفة جديدة لدى الطفل.

يمكن صياغة القانون السيكولوجي الأول بطريقة أخرى:

عندما يعترف الطفل بحب والديه له من خلال إدراكه لنواياهما الواضحة للعناية به يطمئن على نفسه لإيمانه أن أولئك الذين يمثلون السلطة في محيطه يعتبرونه شخصا جديرا بالاحترام بوصفه قيمة في ذاته. أي أنه أصبح يعتقد أن حب والديه له غير مشروط: لا يحبونه لانضباطه، بل لأن في حضوره متعة. وتكون النتيجة:

q      تنامى الشعور بالاعتبار الذاتي لدى الطفل..

q      وعن هذا الشعور ينشأ حبه لوالديه.

  تنامي المشاعر الأخلاقية لدى الطفل

تتشكل المشاعر الأخلاقية كنتيجة للقانون السيكولوجي الأول. فإذا كان الطفل يحب والديه، ويثق بهما، وحصل أن انساق مع المغريات وخرق القواعد فإنه لابد أن

q      يشعر بالذنب.

q      ويعترف بالخطأ.

الشعور بالذنب شعور أخلاقي ناتج عن القانون الأول. ويدل انعدام الشعور بالذنب على انعدام المحبة والثقة. ولكن لا يجب الخلط بين الشعور بالذنب والخوف من العقاب، لأن الخوف من العقاب لا يعتبر شعورا أخلاقيا.

2. أخلاق التشارك

إذا كانت أخلاق السلطة تتكون من القواعد والتوجيهات (الأوامر والنواهي)، فإن أخلاق التشارك تتألف من المعايير الأخلاقية والنماذج المثلى المرتبطة بالمواقع والأدوار في المنظمات الاجتماعية. تطبع هذه المعايير في نفس الفرد بواسطة مواقف الاستحسان والاستهجان الصادرة عن مراكز السلطة وأعضاء المجموعة التي ينتمي إليها (الأسرة، المدرسة..)

كيف تتشكل وتنمو أخلاق التشارك ؟

كلما تقدم المرء في السن، وانتقل من موقع اجتماعي إلى آخر، ومن دور إلى آخر، يكتسب النماذج المثلى لما ينبغي أن يكون عليه صاحب الموقع الجديد والدور الجديد: التلميذ النموذجي، الأستاذ النموذجي، الزوج النموذجي. ومع مرور الوقت، يكتسب الفرد القدرة على فهم النماذج الجديدة وتفسيرها في ضوء أهداف التنظيم، ويتشكل لديه تصور عن نظام التعاون الشمولي الذي يحدد طبيعة المنظمة ووظائفها وأهدافها

ما هي القدرات المطلوبة لاكتساب أخلاق التشارك ؟

إن اكتساب أخلاق التشارك المتمثلة في التأليف بين نماذج مثلى عديدة يتطلب توفر القدرة على رؤية الأشياء من زوايا نظر متعددة وإدراك الروابط التي تجعل منها  نظام تعاون واحد. ولا يمكن النظر إلى الأشياء من منظور الآخرين ما لم يكتسب الفرد القدرة على إدراك نواياهم ومقاصدهم ومشاعرهم؛ ذلك لأن الفرق بين الطفل والراشد هو أن الطفل تعوزه القدرة على إدراك نوايا الآخرين ومقاصدهم. إن إدراك النوايا والمقاصد والمشاعر هو ما يجعل الفرد قادرا على التحكم في سلوكه وتوجيهه وفقا لتوقعات الشركاء الذين يحتلون مواقع أخرى في المنظمة. إن القدرة على إدراك نوايا ومقاصد الآخرين تؤدي إلى تنامي الحس الخلقي وتدفع الفرد إلى الانخراط في التعاون.

القانون السيكولوجي الثاني

عندما تتحقق قدرة الشخص على إدراك مشاعر زملائه في العمل أو التنظيم الاجتماعي، وتتشكل الروابط العاطفية بينهم بحكم القانون السيكولوجي الأول، وعندما يفصح زملاؤه عن نية واضحة في العمل وفقا لما يقتضيه الواجب، تتنامى مشاعر الصداقة والثقة في الآخرين. وهذا هو القانون السيكولوجي الثاني.

وهذه صياغة أخرى للقانون الثاني:

عندما يلج المنظمة عضو جديد، ويشعر أن الأعضاء القدماء يؤدون أدوارهم وفقا للمثل العليا التي تتناسب مع مواقعهم في التنظيم، ويشعر أنهم يؤدوها بنية واضحة لإيمانهم بأن المبادئ التي يقوم عليها التنظيم عادلة ومنصفة، يكون من نتائج ذلك كله تنامي مشاعر الصداقة والثقة المتبادلة بين أعضاء المنظمة، وهذا ما يجعلهم أكثر ارتباطا بالمثل الأخلاقية المرتبطة بمواقعهم في نظام التعاون. وعندما تتعزز الروابط، تتنامى مشاعر التعاون والتشارك، ويشعر الفرد بالذنب عندما يتخلف عن أداء مهمته وهكذا تتشكل المشاعر الأخلاقية الموازية لاكتساب النماذج المثلى المرتبطة بالمواقع والأدوار في المنظمات تحت تأثير القانون السيكولوجي الثاني

بقول راولز:

”إن غياب هذه الميول [الشعور بالذنب] يدل على غياب روابط الصداقة والثقة المتبادلة“ إن الشخص الذي ينقصه الشعور بالذنب لا يحس بالعبء الملقى على كاهل الآخرين، ولا يصاب بالحرج والانزعاج إزاء شعورهم بالخيبة من نكثه للعهد وخرقه للثقة الموضوعة فيه"[1]

خلاصة

  • فكما أن روابط المحبة تنشأ في المرحلة النمائية الأولى (أخلاق السلطة) داخل الأسرة وفقا للقانون السيكولوجي الأول، كذلك تنمو روابط الصداقة والثقة بين الشركاء في المنظمات الاجتماعية خلال المرحلة النمائية الثانية.
  • في كل مرحلة توجد قوانين طبيعية تقف خلف تشكل المشاعر الأخلاقية.
  • ويدل غياب المشاعر الأخلاقية على غياب الروابط الاجتماعية الحميمة التي يقوم عليها نظام المجتمع بوصفه نظام تعاون منصف.

3. أخلاق المبادئ

إذا كان الشخص في المرحلة النمائية الثانية (أخلاق التشارك)  يبدي نية واضحة للعمل وفقا للنماذج المثلى والمثل العليا المرتبطة بالموقع الذي يحتله في المنظمة، فإن الشخص في المرحلة الثالثة يميل إلى الارتباط بمبادئ العدالة الأكثر سموا وإنصافا. فإذا كان الشخص في المرحلة الثانية يريد أن يكون أستاذا نموذجيا، فإنه أصبح الآن يرغب في أن يكون عادلا.

يقول راولز:

”إن فكرة الفعل العادل والعمل على تطوير المؤسسات العادلة، أصبح لها عنده [في المرحلة الثالثة] جاذبية شبيهة بجاذبية النماذج المثلى..“[2]

القانون السيكولوجي الثالث

حسب هذا القانون، إنه عندما تتشكل مشاعر المحبة ومشاعر الصداقة والثقة المتبادلة بمقتضى القانون الأول والقانون الثاني، يظهر الميل إلى الاعتراف بعدالة المؤسسات إذا شعر الجميع أنهم يستفيدون منها بطريقة منصفة. ويكون من نتائج ذلك تشكل وتنامي الإحساس بالعدالة

يتجلى الإحساس بالعدالة بطريقتين:

  1. يتجلى من خلاف الاعتراف بالمؤسسات العادلة، وقبول سلطتها للاعتقاد بأنها تخدم مصالح الجميع، ولذلك يسعى الجميع، كرد فعل إيجابي، إلى الحفاظ على نظامها واستقرارها، ويشعر الفرد بالذنب إذا أخل بواجباته والتزاماته إزاءها
  2. ويتجلى من خلال الرغبة في العمل من أجل بناء المؤسسات العادلة أو إصلاح المؤسسات القائمة، والرغبة في توسيع مجال تطبيق مبادئ العدالة.

ويشعر الشخص بالذنب إن هو تصرف بطريقة تناقض إحساسه بالعدالة وهنا يأخذ الشعور بالذنب معنى مختلفا عن المعنى الذي يكون له في المرحلتين السابقتين

دلالة الشعور بالذنب لدى الطفل

إن ما يميز الطفل هو عدم قدرته على إدراك النوايا والمقاصد وعلى فهم المثل الأخلاقية. ولذلك، فإن مشاعر الذنب الناشئة عن الإخلال بالمبدأ ليس لها وجود في التجارب الوجودية للطفل

دلالة الشعور بالذنب في أخلاق التشارك

تتشكل المشاعر الأخلاقية في مرحلة التشارك حول روابط الصداقة والثقة في بعض الأشخاص والمجموعات. ويتأسس السلوك الأخلاقي في هذه المرحلة على الرغبة في الحصول على رضا الشركاء وتقديرهم. إذ كثيرا ما يكون الدافع الذي يقف خلف قيام المواطنين بأدوارهم هي الروابط التي تربطهم ببعض الشخصيات المتميزة أو بالمجموعات التي ينتمون غليها، فيخشون من أن تتغير نظرتهم إليهم

دلالة الشعور بالذنب في أخلاق المبادئ

لا ترتبط أخلاق المبادئ بالرغبة في تحقيق رغد العيش أو نيل رضا الآخرين وتقديرهم. تتشكل أخلاق المبادئ بناء على تصورنا للحق بغض النظر عن العوامل العرضية، فخلال هذه المرحلة يصبح الحس الأخلاقي مستقلا عن الظروف العرضية كما هو الحال في الوضعية الأصلية التي وصفناها. يفسر الشخص في هذه المرحلة الشعور بالذنب استنادا إلى المبادئ؛ يفسره بعدم الوفاء للمبادئ. ولكن روابط الصداقة تزيد من قوة الشعور بالذنب.

وخلاصة القول:

عندما يتصرف الشخص وفقا لمبادئ العدالة، بالمعنى الكانطي للكلمة، فإنما يعبر بذلك عن طبيعته بوصفه كائنا عاقلا ومعقولا. والحقيقة أنه:

”بدون إحساس مشترك بالعدالة لن يكون لروابط الحياة المدنية وجود“[3]



[1] John Rawls (1971). Theory of justice, p. 471.

[2] John Rawls (1971). Theory of justice, p. 473.

[3] John Rawls (1971). Theory of justice,

Partager cet article
Repost0
6 mai 2008 2 06 /05 /mai /2008 13:51

الأخلاق المتعالية

أحمد أغبال

"تصرف على نحو تُعامل معه الإنسانية دائما وأبدا، سواء في شخصك أو في شخص غيرك، كغاية، ولا تعامل أحدا البتة كما لو كان مجرد وسيلة فقط"

.

تنطوي هذه القولة على مبدأ أخلاقي عام،: وهو الأمر المطلق غير المقيد بشروط والذي أسس عليه كانط نظريته في الأخلاق. إن هذا المبدأ هو القاعدة الأخلاقية الأساسية التي يجب أن توجه سلوكنا، وتقضي بأن نحترم الآخرين ونحترم أنفسنا، وأن نلتزم دائما بعدم استغلال الآخرين أو التعامل معهم كما لو كانوا مجرد مطية لبلوغ مآربنا الأنانية. تنطوي القولة، إذن، على المبدأ الذي تنبني عليه نظريته في الأخلاق، وتبين كيفية تطبيقه على المستوى العملي في حياتنا اليومية.

إن الأمر المطلق هو القاعدة الوحيدة الممكنة والضرورية لتأسيس الأخلاق على اعتبار أن العقل هو مصدرها وليس التجربة. وإذا أردنا أن نعبر عن هذه الفكرة بلغة كانط ومفاهيمه لقلنا إن مبدأ الأمر المطلق هو مبدأ قبلي ومتعالي، أي سابق على التجربة، وهو مطلق وغير مقيد بشروط،  ومعنى ذلك أنه مستقل عن أية مصلحة شخصية وعن الملابسات الظرفية والأهداف الخاصة، ولا يعبر بالتالي إلا عما ينبغي أن يكون باعتباره الواجب الذي لا مناص منه، ولهذه الاعتبارات يسمي كانط مبدأه الأخلاقي هذا بمبدأ استقلال الإرادة. ويدل مفهوم الاستقلال، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، على التعالي، والمقصود بذلك أنه متعالي عن ظروف الزمان والمكان ولا يتأثر بها، ومعنى ذلك أيضا أنه مبدأ ذو صلاحية كونية. فما هو دليل كانط على أن لهذا المبدأ صلاحية كونية ؟ 

إن ما يبرر الصلاحية الكونية لمبدأ الواجب الأخلاقي في نظر كانط هو وجوده القبلي في العقل الخالص؛ فبما أن العقل واحد بالنسبة للبشرية جمعاء فإنه لابد أن تكون له صلاحية كونية. إن وجوده القبلي في العقل الخالص هو الذي يجعل منه قانونا أخلاقيا يفرض نفسه على الضمير البشري كواجب يجب أن  يلتزم به كل فرد دائما وأبدا مهما كانت الظروف. وكذلك فإن ما يبرر دعوة كانط إلى الصلاحية الكونية لمبدأ الواجب الأخلاقي هو إيمانه بأن الإرادة الخيرة التي تهتدي في وجودها بمبدأ معين  هي الشيء الوحيد الذي يعتبر خيرا في ذاته، إن الإرادة الخيرة التي تريد الخير لنفسها ولغيرها هي الخير في ذاته. وإذا كان لابد للإرادة الخيرة أن تكون مبدئية في مساعيها فإن المبدأ الوحيد الذي يجب أن تعمل به بحكم طبيعتها الخيرة  فهو مبدأ الأمر المطلق الذي يقضي بأن ننظر إلى أي إنسان على أنه قيمة في حد ذاته، وبسبب ذلك وجب احترامه احتراما غير مشروط.

يتمثل المعنى الجوهري للاحترام في الفلسفة الأخلاقية لكانط في التعامل مع الغير باعتباره غاية لا باعتباره وسيلة أو مطية لتحيق المصالح الأنانية. ذلك لأن ما يعتبر غاية في ذاته هو كل ما يستمد قيمته من ذاته ويتمتع بالتالي بالاستقلال الذاتي الذي يعني استقلال الإرادة. ولذلك يعتبر كانط استقلال الإرادة أساس الكرامة الإنسانية، وجعل منه القانون الأخلاقي الكوني الذي يجب على كل فرد احترامه. يقتضي هذا المبدأ بأن يختار كل فرد بحرية الأهداف والغايات التي يريد تحقيقها. إن ما يجعل من الإنسان شخصا ذو كرامة هو استقلال الإرادة وحرية اختيار الأهداف والغايات وفقا لمبدأ الواجب الأخلاقي. وهذا ما جعل كانط يعتبر احترام الاختيارات العقلانية لأي شخص أسمى الفضائل الأخلاقية.

  إن السلوك الأخلاقي، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، هو السلوك الذي يخضع للمبدأ الكوني المتمثل في الأمر المطلق، والذي يلزمنا بأن تتصرف في ظروف معينة بنفس الطريقة التي يجب أن يتصرف بها كل فرد في نفس الظروف. إن التصرف وفقا للمصلحة الخاصة أو الأهداف الخاصة لا يمت إلى الأخلاق بصلة. فإن كنت تعتقد، مثلا، بأن الالتزام بقول الحقيقة دائما هو سلوك جيد، لأن قول الحقيقة يبعث في نفسك مشاعر الارتياح والسعادة، فإن سلوكك هذا لا يعتبر أخلاقيا في نظر كانط ما دام الباعث عليه هو الدافع السيكولوجي المتمثل في الرغبة في تحقيق نوع من السعادة أو الرضا عن النفس؛ ولا يمكن اعتباره سلوكا أخلاقيا ما لم يكن الباعث هو مبدأ الواجب الأخلاقي. إن قول الصدق إرضاء للنفس لا يكتسي أية دلالة أخلاقية في نظر كانط. 

ولبيان هذه الفكرة ضرب لنا كانط نفسه مثلا في كتابه "المبادئ الأساسية لميتافيزيقا الأخلاق" برجل يفكر في الانتحار؛ وكان هدفه من وراء هذا المثال هو إقناع القارئ بأن سلوك الانتحار ليس له مبرر كوني. وأما دليله في ذلك فهو استحالة أن يصير قرار الانتحار في ظروف معينة قاعدة بالنسبة لكل من يواجه نفس الظروف. يقول كانط بالحرف الواحد: "إن المنتحر على خطأ، لأنه لو كان مصيبا في قراره بقتل نفسه لوجب أن يدمر كل واحد نفسه". والمقصود بهذا القول هو أن الانتحار ليس واجبا كونيا يُلزم كل من وجد نفسه قي ظروف مماثلة لظروف المنتحر بوضع حد لحياته، ولا يمكن أن يصير قاعدة ذات صلاحية كونية ما دامت البواعث السيكولوجية كحب الذات أو عدم الرضا عن الحياة هي التي تقف خلفه؛ وطالما أنه لا يستند إلى قاعدة كونية ملزمة فلا قيمة له من الناحية الأخلاقية.

ولما كان مبدأ حرية الإرادة والاختيار هو مصدر الأخلاق فإن الانتحار يعني تدمير أسس الأخلاق والكرامة الإنسانية. يقول كانط بهذا الصدد: "إذا كانت الحرية هي شرط الحياة، فإنه لا يمكن استعمالها للقضاء على الحياة، لأنه باستعمالها ستكون قد دمرت وألغت نفسها. إن استعمال الحياة لتدمير الحياة ذاتها، أو من أجل فقدان الحياة [ينطوي على] تناقض ذاتي". وما يمكن استخلاصه من هذا المثال هو أن الحفاظ على الحياة هو مبدأ أخلاقي كوني يجب احترامه، لأن تدمير الحياة (الجسد) هو تدمير للإرادة أيضا.

لقد جاء كانط بفلسفة جديدة في الأخلاق تختلف اختلافا جوهريا عن الفلسفات السابقة وعلى رأسها فلسفة الأخلاق الأرسطية التي نالت حظوة خاصة في الأوساط الفلسفية واللاهوتية على امتداد قرون عديدة. ولذلك سنكتفي هاهنا بإجراء مقارنة بين أخلاق كانط وأخلاق نيكوماخوس لبيان ما إذا كانت العلاقة بينهما هي علاقة نفي وتجاوز وقطيعة.

نرتكز فلسفة الأخلاق الأرسطية على مصادرة مفادها أن غاية الحياة هي الخير الأسمى المتمثل في السعادة. وإذا كان أرسطو قد جعل من السعادة أسمى الفضائل الأخلاقية كلها فلأنه كان يعتقد أنها غاية الغايات أو الغاية النهاية المطلوبة لذاتها؛ وأما الفضائل الأخلاقية الأخرى فهي بالنظر إلى الخير الأسمى وسائل أو غايات مرحلية على الطريق المؤدية إليه. ما وجد الإنسان إلا ليعيش حياة سعيدة، هذا هو المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه فلسفة الأخلاق عند أرسطو والذي يجب أن يوجه السلوك العقلاني للإنسان. يمكن القول بعبارة واحدة: إن الفضيلة هي العمل بالعقل في اتجاه الخير الأسمى، وهو السعادة التي يعتبرها أرسطو غاية في ذاتها..

لا يتفق كانط مع هذه النظرية جملة وتفصيلا، ولذلك حاول نفيها وتقويض أسسها. ومن مآخذه الأساسية على أرسطو أنه أسس نظريته في الأخلاق على مبدأ أمبريقي سيكولوجي (السعادة)؛ ذلك لأنه لا يمكن تأسيس أخلاق ذات صلاحية كونية بناء على نزعة ما من نوازع الطبيعة الإنسانية، ولا يجوز أن نجعل من رغبتنا في السعادة مبدأ الأخلاق لأن الرفاهية لا تنسجم دائما مع الخير والفضيلة، إذ "من الصعب، حسب تعبير كانط، أن تجعل المرء سعيدا انطلاقا من جعله خَيِّرا"، هذا بالإضافة إلى أن مفهوم السعادة إذا نظرنا إليه من وجهة نظر تحليلية فسنجد أنه لا يتضمن مفهوم الخير الأسمى ولا يمكن استنباطه منه منطقيا. وبالتالي فإن هذا المفهوم لا يصلح كمعيار للتمييز بين الفضيلة والرذيلة ولا يُمَكِّنُ من تقدير ما إذا كانت للسلوك قيمة أخلاقية أم لا. هنا يكمن النقص الأساسي في نظرية الأخلاق الأرسطية في نظر كانط.

وإذا كان كانط يتفق مع أرسطو في أن الإنسان كائن عاقل وأن عليه أن يهتدي في تصرفاته بنور العقل، فإنه يختلف معه في أن يكون العقل دائما هو القوة الوحيدة التي تحرك الإنسان في سعيه نحو تحقيق السعادة، فكثيرا ما تكون الغريزة هي الدافع إلى ذلك. يبدو وكأن أرسطو لا يفصل بين الفكر والرغبة، بين المبدإ العقلي والمبدإ السيكولوجي (الرغبة) في السلوك الأخلاقي. ولما كانت الرغبات تختلف من فرد لآخر فإنه لا يمكن الارتقاء بالمبدإ الأخلاقي الأرسطي إلى مستوى الصلاحية الكونية. ولذلك اقترح كانط ضرورة الاعتماد في بناء الأخلاق على مبدأ قبلي متعالي غير مستمد من التجربة وهو الأمر المطلق غير المشروط بأية رغبة أو نزعة من نوازع النفس الإنسانية. إن تحرير المبدأ الأخلاقي من الرغبة هو الشرط الضروري الذي لا غنى عنه لمعرفة ما إذا كان السلوك أخلاقيا أم أنه خال من أية قيمة أخلاقية، وهو السبيل أيضا إلى تحقيق الصلاحية الكونية للأخلاق من خلال مقاومة الرغبات الذاتية. ومن هذا المنطلق رفض كانط أن تكون السعادة هي الخير الأسمى. وكان لابد أن يعيد تحديد مفهوم الخير الأسمى، حيث عَرَّفَه بأن الخير غير المشروط بأية رغبة أو مصلحة خاصة. وكأنما أراد أن يقول: قم بالواجب امتثالا للقانون الأخلاقي ولا تنتظر أية مكافأة مادية أو معنوية. هذا ما يضفي على السلوك قيمة أخلاقية. وعندما يكون الهدف هو تحقيق رغبة أو نزوة مهما كانت جيدة وبريئة وخَيِّرَةََ فإن السلوك لا تكون له أية قيمة أخلاقية، ولا يمكن القول عنه بأنه أخلاقي أو لاأخلاقي، إنه سلوك محايد من الناحية الأخلاقية.

وخلاصة القول: إن السلوك الأخلاقي في نظر كانط هو السلوك الذي يمليه مبدأ الواجب وليس مبدأ الرغبة مهما كانت خَيِّرَةََ. ومعنى ذلك أيضا أن الخير لا يصلح لأن يكون معيارا للأخلاق، لأن ما يسعد البعض قد لا يسعد البعض الآخر؛ ومما يترتب عن ذلك أن عدم القدرة على فعل الخير لا يعتبر إخلالا بالمسؤولية الأخلاقية، على اعتبار أنه لا يوجد في الأمر المطلق ما يلزم بكسب السعادة، لآن السعادة مثل أعلى مصدره الخيال لا العقل. وعلى العكس من ذلك فإن عدم الالتزام بالواجب هو إخلال خطير بالمسؤولية الأخلاقية المتمثلة في ضرورة احترام الأمر المطلق المتأصل في العقل الخالص. وإن كان هناك شيء يمكن اعتباره خيرا في ذاته فهو الإرادة الخيرة، وليس السعادة كما يعتقد أرسطو

.

 

 

Partager cet article
Repost0
24 février 2008 7 24 /02 /février /2008 17:05

 

مفهوم العدالة عند أرسطو
أحمد أغبال
تعريف أرسطو للعدالة
يحيل مفهوم العدالة عند أرسطو إلى دلالتين: عامة وخاصة؛ فهو يشير في دلالته العامة إلى علاقة الفرد بالمؤسسات الاجتماعية، وهنا يكون مرادفا للفضيلة بالمعنى الدال على الامتثال للقوانين؛ فالإنسان الفاضل هو الذي يعمل وفقا للقانون، شريطة أن يكون هذا القانون مبنيا على أساس مبدإ الفضيلة. ومع ذلك فإنه لابد من الإشارة إلى وجود فرق طفيف بين مفهوم العدالة الكونية ومفهوم الفضيلة من حيث أن الأولى تقتصر على العلاقات بين الأفراد والمؤسسات، بينما تشمل الثانية علاقات الأفراد فيما بينهم. وأما العدالة بالمعنى الخاص فتدل على ما ينبغي أن يكون عليه سلوك الفرد في تعامله مع غيره من أفراد المجتمع، وهنا تقترن العدالة بالفضيلة باعتبارها جزءا لا يتجزأ منها، وتدل على السلوك الفاضل في جميع مجالات النشاط الإنساني. إن العدالة بهذا المعنى تقتضي أن يقنع المرء بقسمته ولا يطمع بما في أيدي الناس وفي حقوقهم، وتعني الاعتدال، وهو الحد الوسط بين قيمتين متطرفتين أو بين الزيادة والنقصان، ومعنى ذلك أن يسعى الإنسان الفاضل دائما إلى الحصول على القسمة التي تمثل القيمة التي تقع بين الحد الأدنى والحد الأعلى، وهذا ما تدل عليه العبارة الأرسطية المشهورة: "الفضيلة هي الوسط". تدل هذه العبارة من الناحية العملية على أن يقنع الشخص الفاضل بأقل قدر ممكن.
أنواع العدالة في فلسفة الأخلاق لدى أرسطو
يميز أرسطو بين العدالة الكونية والعدالة الخاصة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ويميز في العدالة الخاصة أيضا بين نوعين وهما:
1. عدالة التوزيع، وتشمل توزيع الخيرات والشرف والمناصب أو أي شيء يمكن توزيعه على أفراد الجماعة الإنسانية. ويستلزم تحقيق هذا النوع من العدالة وجود شخصين وشيئين يراد توزيعهما بينهما؛ وتقضي العدالة أن تظل وضعية كل واحد من الطرفين كما كانت قبل التوزيع، ومعنى ذلك أن يتم توزيع الأشياء بما يتناسب مع ما يستحقه كل طرف، هذا مع العالم أن معيار الاستحقاق يختلف باختلاف النظم الاجتماعية: ففي الأنظمة الديمقراطية يكون المعيار هو الحرية، وتكون الثروة هي المعيار في الأنظمة الأوليغارشية، وهو الفضيلة في الأنظمة الأرستقراطية. وأخذا بعين الاعتبار الفروق التي تقيمها هذه المعايير بين الأفراد، فإنه يمكن مع ذلك إقامة العدل بينهم، وذلك وفقا لمبدإ التناسب الهندسي؛ فإذا كان هناك شخصان "أ" و "ب" يريدان تقاسم شيئين "ج" و "د"، وكان الشخصان متماثلان من حيث درجة الاستحقاق، وكانت قيمة "ج" مساوية لقيمة "د"، فإن العدالة تقتضي أن يتم التوزيع وفقا للمعادلة التالية:
أ  ¸  ب = ج   ¸  د
وبالنظر إلى مبدإ التوزيع العادل، فإنه يتعين أن يحصل "أ" على "ج" كلها، وأن يحصل "ب" على "د" كلها، بحيث تصبح الوضعية بعد التقسيم على النحو التالي 
أ + ج) ¸  (ب + د) =  أ  ¸ ب )
 
 وهذا يعني أن وضعية كل طرف بالنسبة إلى الطرف الآخر بعد التوزيع ظلت كما كانت عليه قبل التوزيع، بمعنى أن أي أحد لم يحقق أية مكاسب على حساب الآخر؛ وهذه هي العدالة التوزيعية التي تقوم على مبدإ التناسب الهندسي الذي تمثل حصيلته الحد الوسط بين الزيادة والنقصان في الحصة التي يستحقها كل طرف، فلا إفراط ولا تفريط. ومعنى ذلك أن الشخص غير العادل هو الذي يرغب في الحصول على أكثر مما يستحق وفقا لمبدإ التناسب الهندسي.
ومع أن العدالة التوزيعية تخص التعاملات بين الأفراد فإنه يمكن تطبيقها أيضا على التعامل بين مؤسسات الدولة والمواطنين فيما يتعلق بتوزيع الخيرات والمناصب والخدمات كالتعليم والصحة. تقتضي العدالة أن تقوم الدولة بتوزيع هذه الموارد بالتساوي على المواطنين مع مراعاة استعداداتهم ومؤهلاتهم وقدراتهم، وبغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية أو العرقية أو الدينية وما إلى ذلك. وتقتضي العدالة أن تقدم الدولة الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة مثلا لجميع المواطنين دون تفضيل أو تمييز بعضهم على بعض. فإذا كانت سياسة الدولة تقوم على مبدإ المعاملة التفضيلية لبعض الفئات على حساب فئات أخرى عندما تقوم بتقديم هذه الخدمات، كأن يتلقى أبناء الأعيان والطبقات العليا تعليمهم في مدارس أفضل منالمدارس التي يدرس فيها أبناء الطبقات الشعبية، أو أن يتلقوا العلاج في مستشفيات وعيادات فاخرة بينما يتلقى أبناء الطبقات الشعبية علاجهم في مستشفيات قذرة تفتقر إلى التجهيزات الضرورية، إذا كان الأمر كذلك فإن الدولة ستكون دولة جائرة تفتقر إلى المشروعية، ويكون من حق الشعب أن يقاومها ويعيد بناءها من جديد على أساس مبدإ العدالة.  
2. العدالة التصحيحية، وتكمن وظيفتها في إعادة الحق المنتهك إلى نصابه، والحقوق المهضومة إلى أصحابها في مجال التعاملات بين الناس. يميز أرسطو في هذا النوع من العدالة بين نوعين وهما: العدالة المتعلقة بالمعاملات الإرادية أو الاختيارية بين الأفراد كالبيع والشراء والإيجار والسلف وما إلى ذلك؛ والعدالة المتعلقة بالمعاملات غير الإرادية، السرية منها والعنيفة كالسرقة وإتلاف ممتلكات الغير أو إهانته أو مضايقته في عمله أو سكنه الخ. ففي مجال التعاملات الإرادية أو التعاقدية يكون هدف الحاكم أو القاضي هو التصحيح لا العقاب،. وتقتضي العدالة في هذه الحالة أن يتعامل القاضي مع المتنازعين على قدم المساواة، وأن يمسك عن إصدار أي حكم معياري ولا ينظر إلى أي أحد منهما على أنه طيب أو خسيس. وأما ما يجب أن يقوم به فهو بيان الحيف الذي لحق أحدهما وتصحيحه وإعادة الأمور إلى نصابها وإلى ما كانت عليه قبل المعاملات.  وأما في مجال السلوك الإجرامي فإن الهدف يكون هو العقاب وتصحيح الضرر وإعادة الاعتبار للمعتدى عليه.
ويرى أرسطو أن العدالة التصحيحية تقوم على مبدإ التناسب الحسابي، وهذا مثال يوضح هذا المبدأ: لنفترض أن شخصين "أ" و "ب" اللذان يوجدان في وضعية متساوية ( أ = ب) وتعرض أحدهما لتعامل سري من الطرف الآخر، حيث إن الشخص "أ" اعتدى على الشخص "ب" وأخذ منه القيمة "ج"، وعلى إثر ذلك أصبحت وضعيتهما هي: (أ ج)، (ب – ج). ولإعادة الأمور إلى نصابها دون إفراط ولا تفريط يقوم القاضي بإعادة "ج" إلى "ب"، وعندئذ تصبح الوضعية كما يلي: (أج – ج) = (ب – ج + ج). وهكذا تعود المعادلة إلى ما كانت عليه في الوضعية الأصلية.
مفهوم الوسط في أخلاقيات العدالة عند أرسطو
يتبين من التحليل السابق أن نظرية العدالة عند أرسطو تقوم على ثلاثة قيم، اثنتان منهما تمثلان الرذيلة وهما الزيادة والنقصان أو الإفراط والتفريط، وتمثل القيمة الثالثة الفضيلة وهي الوسط. تتعارض كل قيمة من هذه القيم مع القيم الأخرى، ولكن ليس بنفس القوة أو الحدة، وأشد ما يكون التعارض بين القيم المتطرفة (الزيادة المفرطة والنقصان المفرط)، وكذلك يوجد تعارض بينهما وبين قيمة الوسط. وأما المتوسط فإنه يتعارض مع القيم المتطرفة من حيث أنه يمثل الزيادة بالنسبة للقيمة الدنيا والنقصان بالنسبة للقيمة العليا. فالرجل الشجاع يبدو متهورا في نظر الجبان، وجبانا في نظر المتهور؛ ولهذا السبب ينظر كل متطرف في هذا الاتجاه أو ذاك إلى من يقف في الوسط بين طرفي النقيض على أنه مذنب. وكثيرا ما تبدو القيمة المتطرفة مشابهة لقيمة الوسط ومختلفة اختلافا جذريا عن القيمة التي تقع في الطرف النقيض: فالتهور يبدو في بعض الأحيان مشابها للشجاعة ومناقضا للجبن، والتبذير مشابها للكرم ومناقضا للبخل، ذلك لأن العلاقة بين القيم المتطرفة هي على العموم علاقة تناقض، وأما العلاقة بين القيم المتطرفة والقيمة الوسطى فهي علاقة تشابه وتماثل، بحيث يكون من الصعب في بعض الوضعيات التمييز بينها.
وفي بعض الأحيان تكون إحدى القيم المتطرفة أكثر تعارضا مع القيمة الوسطى بالمقارنة مع القيمة المتطرفة الأخرى، فالجبن مثلا يبدو أكثر تعارضا مع الشجاعة من التعارض الموجود بين التهور والشجاعة. وكذلك فإن التعاطف وإظهار المشاعر الذاتية أقرب إلى التحكم في الذات وأبعد ما يكون عن انعدام الحس أو الحساسية. ويرجع السبب في ذلك إلى أنه عندما يشعر المرء بأن إحدى القيم المتطرفة شبيهة بالقيمة الوسطى فإنه يميل إلى اعتبار القيمة المتطرفة الأخرى مناقضة للقيمة الوسطى. وكذلك فإنه كلما كان المرء أكثر انجذابا إلى قيمة ما فإنه يميل إلى اعتبار القيمة الوسطى مناقضة لقيمته، فإذا كان شديد الميل إلى تحقيق اللذة والمتعة وأقل قدرة على التحكم في الذات، فإنه سيميل بطبيعة الحال إلى اعتبار الاعتدال في الإقبال على المتعة منافيا لمبدإ التحكم في الذات.
نخلص من ذلك كله إلى القول بأن العدالة هي الفضيلة، وأن الفضيلة هي الوسط بين رذيلتي الإفراط والتفريط أو الزيادة والنقصان على مستوى الانفعالات والسلوك. وتقتضي الحكمة من وجهة النظر هذه اكتساب القدرة على تحديد القيمة الوسطى بنزاهة، ولكن تحقيق هذه المهمة يكون على قدر كبير من الصعوبة في بعض الأحيان لاعتبارات ذاتية صرفة. ولعل من أهم الشروط التي يجب أن تتوفر في الشخص من أجل تحقيق هذه الغاية: الوعي بالذات وما تنطوي عليه من نوازع وميولات خاصة، والقدرة على التحكم في الذات. إن هذه الصفات هي التي تساعد المرء على عدم الانسياق وراء الرغبات المتطرفة التي تتعارض مع الحد الوسط الذي يسعى إليه، إن امتلاك هذه الصفات هو ما يجعله قادرا على اكتشاف القيمة المتطرفة الأكثر تعارضا مع القيمة الوسطى بالقياس إلى القيمة المتطرفة الأخرى، حتى إذا لم يتمكن من الاهتداء إلى القيمة الوسطى أمكنه الاختيار على الأقل بين أهون الضررين. إن الوعي بالنوازع الذاتية يعصم من الوقوع في الزلل ويساعد على مقاومة الإغراء والأهواء، ويدفع المرء إلى السير في الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي كان ينوي السير فيه من جراء ميله إلى التمركز حول الذات لتلبية رغباتها الأنانية. إن التخلص من نزعة التمركز حول الذات هو السبيل القويم إلى الاهتداء إلى القيمة الوسطى التي تمثل الفضيلة.   
  البعد الاجتماعي والسياسي للعدالة
إن العدالة بالمعنى السياسي للكلمة تدل عللا علاقة الدولة بمواطنيها، ولا تتحقق العدالة في هذا الإطار إلا إذا كان جميع المواطنين يتمتعون بنمط عيش مشترك يلبي حاجاتهم الأساسية، ويوفر لهم إمكانية الاستقلال الذاتي والحرية والمساواة في جميع مجالات الحياة الاجتماعية بناء على مبدإ التناسب الهندسي أو مبدإ التناسب الحسابي حسب طبيعة النظام الاجتماعي-السياسي. ففي الأنظمة الأرستقراطية تتحدد المساواة بين المواطنين وفقا لمبدإ التناسب الهندسي، لأن توزيع الحقوق في هدا النظام يتم بالنظر إلى وضعية الأفراد واستحقاقاتهم، ويتحدد مفهوم المساواة في الأنظمة الديمقراطية وفقا لمبدإ التناسب الحسابي ما دام كل مواطن حر يتمتع بنفس الحقوق والواجبات.
ولما كانت وظيفة القوانين والتشريعات هي التمييز بين العدل والجور فإنه لا يمكن الحديث عن العدالة السياسية في مجتمع لا تخضع فيه العلاقات بين الأفراد للقوانين؛ ما وجدت القوانين في الواقع إلا بسبب قابلية الإنسان لأن يكون عادلا أو جائرا، بل إن طبيعته الأنانية، وميله إلى التمركز حول الذات يؤهلانه لأن يكون أكثر ميلا إلى الظلم منه إلى العدل، وخاصة إذا تمركزت السلط بين يديه وتوفرت له أسباب القوة. ولهذا السبب يكون نظام الحكم الفردي أكثر الأنظمة السياسية ظلما وجورا وفسادا؛ لأن الحاكم المستبد يجعل مصالحة الأنانية فوق مصلحة الأمة أو الوطن. ولذلك يقال بأن القانون هو الحاكم الفعلي في الدولة العادلة، ويقتصر دور القادة فيها على السهر على تطبيق القوانين وتحقيق العدالة ولو على أنفسهم. ولقد ضربت الولايات المتحدة الأمريكية على ذلك مثالا للعالم عندما مثل الرئيس كلنتون أمام العدالة في قضية مونيكا التي باتت مشهورة.
ويجمع المفكرون في الوقت الراهن على أن العدالة التصحيحية لا يمكن أن تتحقق في إطار أي نظام سياسي ما لم يكن هناك فصل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية. ويعتبر مبدأ فصل السلط الركيزة الأساسية التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطية العادلة. ولابد من الإشارة هنا إلى أن مشكلة الحكم الديمقراطي العادل ما زالت هي المشكلة الرئيسية التي يعاني منها المغرب وغيره من بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وما زالت هذه البلدان تقاوم كل دعوة إلى إصلاح أنظمتها القضائية والإدارية سواء كان مصدر هذه الدعوة داخليا أو خارجيا.
Partager cet article
Repost0
14 février 2008 4 14 /02 /février /2008 20:57

مسالة الموضوعية في العلوم الإنسانية
أحمد أغبال
على ماذا يدل مفهوم الموضوعية في العلوم الإنسانية؟ وماذا يعنى القول بأن نظرية اجتماعية ما تمثل تحليلا علميا موضوعيا لمجموعة من الظواهر الاجتماعية؟  هناك عدة أطروحات تستحق المناقشة، ولسوف نستعرضها بشكل مركز فيما يلي.
                       I.          دلالات وأبعاد مفهوم الموضوعية في العلوم الإنسانية
1. هناك أطروحة تقول بأن الوقائع الاجتماعية التي يجعل منها الباحثون موضوعا لدراساتهم توجد في استقلال عن أجهزتهم المفاهيمية ونظرياتهم. يتعلق الأمر هنا بالاعتقاد بوجود عالم موضوعي قائم بذاته؛ وهذا ما يسمى بالموضوعية الأنطلوجية. إن ما يميز هذه الأطروحة هو إيمانها بأن الحقائق العلمية لابد أن تكون لها صلاحية كونية ما دامت الوقائع تتمتع بوجود موضوعي بسبب وضعها الأنطلوجي المستقل عن تصورات الملاحظ. إن البنيات والعمليات الاجتماعية، من وجهة النظر هذه، توجد في استقلال عن الملكات العقلية الذاتية؛ ويكون هدف النظريات العلمية في هذه الحالة هو وصف البنيات الاجتماعية وآليات اشتغالها والكشف عن القوانين التي تفسر المعطيات الملاحظة بعيدا عن تصورات الناس لما ينبغي أن تكون عليه وعن كل ما يتصل برغباتهم وأهوائهم بشأنها. يرتكز هذا التصور للوقائع الاجتماعية على مصادرة مفادها أن الظواهر الاجتماعية تتشكل كنتيجة لقوانين موضوعية مستقلة عن إرادة البشر ورغباتهم.
2. وهناك أطروحة التي تقول إنه بإمكان نظرية تتعلق بمجموعة من الوقائع الاجتماعية أن تتبلور يناء على المعرفة الدقيقة بالوقائع وأن تستند في بنائها على مبادئ وقواعد معقولة، بحيث يكون البناء النظري متناسبا مع المعطى الأمبريقي؛ وهذه هي الموضوعية بالمعنى الإبستملوجي. إن ما يميز هذه الأطروحة عن الأطروحة السابقة – التي تنطلق في تحديها لمفهوم الموضوعية من الموضوع - هو أنها تركز في تصورها لشرط الموضوعية في العلوم الإنسانية على الإجراءات المنهجية وطريقة البحث. يستفاد من هذه الأطروحة أن ما يميز النظريات العلمية في المقام الأول هو منهجها العلمي الذي يتعامل مع المعطيات الأمبريقية بطريقة موضوعية؛ ومعنى ذلك أنه يجب أن يستند الباحثون في دراساتهم على مجموعة من الإجراءات الواضحة التي يمكن الاحتكام إليها في تقييم النظريات المتنافسة ومقارنة بعضها ببعض فيما يتعلق بدرجة علميتها.
  3. وتذهب الأطروحة الثالثة إلى أن الوقائع الاجتماعية توجد في استقلال عن وعي الفاعلين الاجتماعيين المنخرطين فيها. وهذا هو التصور الوضعي للوقائع الاجتماعية الذي يمثله أوجست كونت ودوركايم خير تمثيل والذي يقف في مقابل التصور الفينومينولوجي أو التأويلي للظواهر الاجتماعية الذي ترجع جذوره إلى ديلتي مرورا بماكس فيبر.
4. وتقول الأطروحة الرابعة بأن البحث العلمي يستلزم اتخاذ موقف الحياد من الناحية القيمية والمصلحية، تنطلق هذه الأطروحة من الاعتقاد بإمكانية استبعاد أحكام القيمة استبعادا كليا أثناء مزاولة البحث العلمي، وهو ما لا يتفق معه ماكس فيبر الذي يعتقد بأن بعض الاختيارات الفيمية والأخلاقية لا تقلل من القيمة الموضوعية للبحث العلمي إذا تمكن الباحث من التحكم فيها خلال عملية التحليل..
5. وتقول الأطروحة الخامسة إن الموضوعية لا تتحقق إلا من خلال ميل الباحثين إلى الإجماع حول خصائص الوقائع الاجتماعية، وذلك عير تقاطع نتائج بحوثهم الأمبريقية والنظرية. ويرى الباحثون أن البحث العلمي في مجال معين يسير في اتجاه تقارب وجهات النظر وتقاطع نتائج البحوث العلمية مما يجعل الإجماع بين العلماء أمرا ممكنا. إن النظرية العلمية الموضوعية أو الصحيحة، من وجهة نظر برنارد وليامز (1985)، هي النظرية التي يجمع عليها العلماء من خلال اتفاقهم على إجراءات البحث العلمي.
يمكن التأليف بين بعض الأطروحات والنظر إليها باعتبارها تمثل مختلف أبعاد مفهوم الموضوعية في مجال العلوم الإنسانية مثلما فعل ماكس فيبر؛ فهو وإن كان يأخذ بالأطروحة الأولى التي تعترف بوجود وقائع اجتماعية موضوعية، فإنه يستبعد الأطروحة الثالثة التي تقول بأن الوقائع الاجتماعية توجد في استقلال عن وعي الفاعلين الاجتماعيين، ويعترف، على العكس من ذلك، بأن الوقائع الاجتماعية هي وقائع "ذاتية" من حيث ارتباطها بوعي الأفراد الذين يصنعونها من خلال إضفاء دلالات خاصة عليها، كما يعترف بالأطروحة الثانية التي تقول إنه من الممكن تقديم وصف أمبريقي ونظري موضوعي لهذه للوقائع.
وإذا كان ماكس فيبر لا يرى مانعا في الأخذ بالأطروحة الأولى، فإن بعض المفكرين من ذوي الاتجاه البنائي l’approche constructiviste يرفضونها جملة وتفصيلا، بدعوى أنه ليس هناك عالم واحد، بل عوالم تتعدد بتعدد الأجهزة المفاهيمية التي تستعمل لوصف التجارب الإنسانية. ولما كانت المقاربة البنائية لا تؤمن بوجود نظرية أو طريقة واحدة مثلى لفهم الواقع الاجتماعي كان لابد أن ترفض الأطروحة الثانية التي تقوم على التصور الإبستملوجي للموضوعية. ومع ذلك أنه يمكن، في إطار هذا التوجه، استبعاد الأطروحة الأولى مع الاحتفاظ بالأطروحة الثانية، بمعنى الإقرار بوجود نظرية علمية مثلى بخصوص مجموعة معينة من الظواهر الاجتماعية مع الاعتراف بأن الوقائع التي تصفها لا تتمتع بوجود موضوعي بالمعنى الأنطلوجي للكلمة..
ومهما يكن من أمر ذلك فإن التوجه العام السائد في الوقت الراهن يسير في الاتجاه الذي رسم ماكس فيبر معالمه، ويجمع بين الأطروحة الأولى والثانية والخامسة. هناك، إذن، ميل عام إلى الاعتراف بوجود واقع موضوعي قائم بذاته، وطريقة موضوعية مثلى للتعامل معه، مع الإقرار أيضا بأن نتائج البحوث في مجال معين تتقاطع فيما بينها وتؤدي إلى حصول نوع من الإجماع بين الباحثين على اختلاف توجهاتهم النظرية ومرجعياتهم القيمية والفلسفية. وتكمن أهمية الإجماع في أنه يحد من مفعول العناصر الذاتية، ويضمن بذلك درجة عالية من الموضوعية.
ونظرا لأهمية الحل الذي اقترحه ماكس فيبر لمسألة الموضوعية في العلوم الإنسانية، قررنا أن نخصص له فقرة نتناول فيها بنوع من التفصيل تصوره لمسألة الموضوعية والحلول التي اقترحها من أجل إضفاء أكبر قدر من الموضوعية على البحث العلمي.
                 
(*) Edward Bryan Portis(1986),Max Weber and political commitment: Science, politics and personality.      Philadelphia: Temple University Press.
(**) Weber, Max. 1895/1994. “The Nations State and Economic Policy (Freiburg Address)” in Weber: Political
      Writings. ed./trans. P. Lassman and R. Speirs. Cambridge: Cambridge University Press.
(*) Weber: Political Writings (op. cit), Introduction by Lassman and Speirs
Partager cet article
Repost0

Recherche

Archives

&Amp;#1593;&Amp;#1606;&Amp;#1575;&Amp;#1608;&Amp;#1610;&Amp;#1606; &Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1605;&Amp;#1602;&Amp;#1575;&Amp;#1604;&Amp;#1575;&Amp;#1578;

دروس في الفلسفة

Liens